الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن قال لها : اعتدي اعتدي اعتدي وقال : نويت بالأولى طلاقا وبالباقي حيضا دين في القضاء ) لأنه نوى حقيقة كلامه ، ولأنه يأمر امرأته في العادة بالاعتداد بعد الطلاق فكان الظاهر شاهدا له ( وإن قال : لم أنو بالباقي شيئا فهي ثلاث ) لأنه لما نوى بالأولى الطلاق صار الحال حال مذاكرة الطلاق فتعين الباقيان للطلاق بهذه الدلالة فلا يصدق في نفي النية ، بخلاف ما إذا قال : لم أنو بالكل الطلاق حيث لا يقع شيء لأنه لا ظاهر يكذبه ، وبخلاف ما إذا قال : نويت بالثالثة الطلاق دون الأوليين حيث لا يقع إلا واحدة لأن الحال عند الأوليين لم تكن حال مذاكرة الطلاق ، [ ص: 73 ] وفي كل موضع يصدق الزوج على نفي النية إنما يصدق مع اليمين لأنه أمين في الإخبار عما في ضميره والقول قول الأمين مع اليمين .

التالي السابق


( قوله : ولو قال لها اعتدي اعتدي اعتدي ) هذه المسألة تحتمل وجوها : أن ينوي بكل من هذه الألفاظ طلاقا ، أو بالأولى طلاقا لا غير ، أو بالأولى حيضا لا غير ، وبالأوليين طلاقا لا غير ، أو بالأولى والثالثة طلاقا لا غير ، أو بالثانية والثالثة طلاقا وبالأولى حيضا ، وفي هذه الوجوه الستة تطلق ثلاثا .

أو ينوي بالثانية طلاقا لا غير ، أو بالأولى طلاقا وبالثانية حيضا لا غير ، أو بالأولى طلاقا وبالثالثة حيضا لا غير ، أو بالأخريين طلاقا لا غير ، أو بالأوليين حيضا لا غير ، أو بالأولى والثالثة حيضا لا غير ، أو بالأولى والثانية طلاقا وبالثالثة حيضا ، أو بالأولى والثالثة طلاقا وبالثانية حيضا ، أو بالأولى [ ص: 73 ] والثانية حيضا وبالثالثة طلاقا أو بالأولى والثالثة حيضا والثانية طلاقا أو بالثانية حيضا لا غير وفي هذه الأحد عشر تطلق ثنتين أو ينوي بكل منها حيضا ، أو بالثالثة طلاقا لا غير أو بالثالثة حيضا لا غير ، أو بالثانية طلاقا ، أو بالثالثة حيضا لا غير ، أو بالثانية والثالثة حيضا ، وبالأولى طلاقا أو بالأخريين حيضا لا غير ، وفي هذه الوجوه الستة تطلق واحدة ، أو لم ينو بكل منها شيئا فلا يقع في هذا الوجه شيء .

والأصل أنه إذا نوى الطلاق بواحدة تثبت حال مذاكرة الطلاق فلا يصدق في عدم نية شيء بما بعدها ، ويصدق في نية الحيض لظهور الأمر باعتداد الحيض عقيب الطلاق ، وإذا لم ينو الطلاق بشيء صح ، وكذا كل ما قبل المنوي بها ، ونية الحيض بواحدة غير مسبوقة بواحدة منوي بها الطلاق يقع بها الطلاق ، وتثبت بها حالة المذاكرة فيجري فيها الحكم المذكور لها ، بخلاف ما إذا كانت مسبوقة بواحدة أريد بها الطلاق حيث لا يقع بها الطلقة الثانية لصحة الاعتداد بعد الطلاق .

ولا يخفى التخريج بعد هذا ، وأن هذا فيما إذا كان الخطاب مع من هي من ذوات الحيض ، فلو كانت آيسة أو صغيرة فقال : أردت بالأول طلاقا وبالباقي تربصا بالأشهر كان حكمه مثل ما نحن فيه ، ولو قال : نويت بهن واحدة فهو كما قال ديانة لاحتمال قصد التأكيد كأنت طالق طالق طالق لا قضاء لأنه خلاف الظاهر ، وعلمت أن المرأة كالقاضي لا يحل لها أن تمكنه من نفسها إذا علمت منه ما ظاهره خلاف مدعاه ، وقد ظهر مما ذكر أن حال مذاكرة الطلاق لا تقتصر على السؤال وهو خلاف ما قدموه من أنها حال سؤالها أو سؤال أجنبي طلاقها ، بل هي أعم من حالة السؤال للطلاق ومن مجرد ابتداء الإيقاع ، ثم على هذا لقائل أن يقول : المذاكرة التي تصير الكناية معها ظاهرة في الإيقاع إنما هي سؤال الطلاق لأن ذكر الكناية الصالحة للإيقاع دون الرد عقيب سؤال الطلاق ظاهر في قصد الإيقاع به فيمتنع قبول دعواه عدم إرادة الطلاق ، بخلاف المذاكرة بمعنى الابتداء بإيقاع الطلاق مرة ، فإن الإيقاع مرة لا يوجب ظهور الإيقاع مرة ثانية وثالثة فلا يكون اللفظ الصالح له ظاهرا في الإيقاع حتى لا يقبل قوله في عدم إرادته بالكناية ( قوله : وفي كل موضع يصدق الزوج في نفي النية إنما يصدق مع اليمين إلخ ) قدمنا بيانه ونقله من الكافي للحاكم ولزوم اليمين لما فيه من الإلزام على الغير بعد ثبوت احتمال نفيه بالكناية فيضعف مجرد نفيه فيقوى باليمين ، والأقرب أنه لنفي التهمة أصله حديث تحليف ركانة المتقدم .



[ فروع ] طلقها واحدة ثم قال : جعلتها بائنة صارت بائنة ، وقال محمد : لا تكون إلا رجعية . ولو قال : جعلتها [ ص: 74 ] ثلاثا صارت ثلاثا عند أبي حنيفة رحمه الله .

وقالا : لا تكون إلا واحدة لأن الواحدة لا تكون ثلاثا . ولمحمد في الأول أن جعله الواحدة الرجعية بائنة تغيير للمشروع فيرد عليه . قلنا : يملك البائن لما ذكرناه قريبا ، لكنه لم ينص على وصف ابتداء اكتفاء بأصل الطلاق فكان رجعيا باعتبار عدم حصول البينونة ، فإذا أبانها التحقت بأصل الطلاق كما لو فعلها ابتداء كالوكيل بالبيع لما ملك البيع النافذ كان مالكا لأصله ووصفه وملك إلحاق وصفه بأصله كتنفيذ عقد الفضولي .

واعلم أن الصريح يلحق الصريح والبائن عندنا ، والبائن يلحق الصريح لا البائن إلا إذا كان معلقا .



فلو قال لها بعد الخلع : أنت طالق يقع الطلاق عندنا خلافا للشافعي ، ولو قال : بائن لم يقع اتفاقا ، ولو قال : إن دخلت فأنت بائن ينوي الطلاق ثم أبانها فدخلت في العدة وقع عليها طلاق آخر عندنا خلافا لزفر .

أما كون الصريح يلحق البائن فلقوله تعالى { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } يعني الخلع ، ثم قال تعالى { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } والفاء للتعقيب فهو نص على وقوع الثالثة بعد الخلع . وعن أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم { المختلعة يلحقها صريح الطلاق ما دامت في العدة } وهنا القيد الحكمي باق لبقاء أحكام النكاح ، وإنما فات الاستمتاع وهو لا يمنع التصرف في المحل كالحيض ، ولهذا لحق البائن الصريح بل أولى لبقاء الاستمتاع ، وأما عدم لحوق البائن فلإمكان جعله خبرا عن الأول وهو صادق فيه فلا حاجة إلى جعله إنشاء لأنه اقتضاء ضروري ، حتى لو قال : عنيت به البينونة الغليظة ينبغي أن يعتبر وتثبت الحرمة الغليظة لأنها ليست ثابتة في المحل فلا يمكن جعله إخبارا عن أنها ثابتة فتجعل إنشاء ضرورة ، ولهذا وقع البائن المعلق قبل تنجيز البينونة كما مثلناه لأنه صح تعليقه ولم يمكن جعله خبرا حين صدر .

وأورد عليه أن مثله لازم في أنت طالق أنت طالق فلزم أن لا يلحق الصريح .

أجيب بأنه لا احتمال فيه لأن أنت طالق متعين للإنشاء شرعا . ولو قال : أردت به الإخبار لا يصدق قضاء . وفي مسألتنا لم يذكر أنت بائن ثانيا ليجعل خبرا بل الذي وقع أثر التعليق السابق وهو زوال القيد عند وجود الشرط وهو محل فيقع ويقع المعلق بعد المعلق ، وقد عرف من استدلالهم الذي أطبقوا عليه أن المراد من البائن الذي لا يلحق ما هو بلفظ الكناية لأنه هو الذي ليس ظاهرا في إنشاء الطلاق ، وبه يقع الفرق بين الصريح أنت طالق أنت طالق وأنت بائن ، ولأنهم جعلوه مقابل الصريح ، ولا يقابله البائن إلا إذا كان كناية لأن الصريح أعم من البائن لأنه ما لا يحتاج إلى نية بائنا كان الواقع به أو رجعيا ، والكناية ما يحتاج إليها ، غير أنه لا يقع بها في غير الألفاظ الثلاثة اعتدي استبرئي رحمك أنت واحدة إلا بائن .

وفي الخلاصة نقلا من الزيادات : الذي يلحق البائن لا يكون رجعيا ، والصريح يلحق البائن وإن لم يكن رجعيا . وقوله : الذي يلحق البائن لا يكون رجعيا لأنه لا يتصور لأن البينونة السابقة تمنع الرجعة التي هي حكم الصريح غير المقيد بإبانة . ما ذكر من أنه إذا أبانها ثم قال لها : أنت طالق بائن يلغو بائن هو لما ذكرنا من عدم تصور الرجعة فكان ذكره وتركه سواء ، وما زاد في تعليل الإلغاء في هذه المسألة في الحاوي من قوله : يلغو تصحيحا لكلامه لا معنى له ، وعلى مجرد الإلغاء اقتصر في الخلاصة ومحله ما ذكرنا .

وعلى هذا فما وقع في حلب من الخلاف في واقعة ، وهي أن رجلا أبان امرأته ثم طلقها ثلاثا في العدة الحق فيه أنه يلحقها لما سمعت من أن الصريح وإن كان بائنا يلحق البائن ، ومن أن المراد بالبائن الذي لا يلحق هو ما كان كناية على ما يوجبه الوجه .

وفي الحقائق : لو قال [ ص: 75 ] إن فعلت كذا فحلال الله علي حرام ، ثم قال هكذا لأمر آخر ففعل أحدهما وقع طلاق بائن ، ثم لو فعل الآخر قال ظهير الدين : ينبغي أن يقع آخر ، وقال : هذا ينبغي أن يحفظ .



[ تتمة ] في الشهادة على الطلاق من الكافي للحاكم وهو مجموع كلام محمد رحمه الله في كتبه ، لو شهدا بالطلاق والزوجان متصادقان على عدم الطلاق فرق بينهما لأن البينة تكذبهما ، ولو شهدا أنه طلق إحدى نسائه بعينها ونسياها فشهادتهما باطلة ، ولو شهد أنه طلق إحداهن بغير عينها ألزمناه الإيقاع على إحداهن استحسانا ، وفي القياس هو كالأول ، ولو شهد شاهد على طلقتين وآخر بثلاث والزوج منكر لم تجز هذه الشهادة على قول أبي حنيفة ، وعندهما تجوز على طلقتين ، وتأتي هذه في الهداية في باب الاختلاف في الشهادة ، وإذا شهد شاهد عدل على الطلاق فسألت المرأة القاضي أن يضعها على يد عدل حتى تأتي بالآخر لا يفعل ويدفعها إلى زوجها ، فإن كان الطلاق بائنا وادعت أن بقية الشهود بالمصر وشاهدها عدل ، فإن أجلها ثلاثة أيام وحال بينها وبين زوجها حتى ينظر ما تصنع في شاهدها الآخر فهو حسن ، وإن دفعها للزوج لا بأس به ، ولو شهد أحدهما أنه طلقها ثلاثا والآخر أنه قال : أنت علي حرام ينوي الطلاق فهي باطلة ، وكذا لو شهد أحدهما أنه طلقها إن دخلت الدار وأنها دخلت والآخر أنه طلقها إن كلمت فلانا وأنها كلمته ، وكذا إن اختلفا في ألفاظ الكنايات ، وكذا في مقادير الشروط التي علق عليها في التعليق والإرسال ومقادير الأجعال وصفاتها وفي اشتراطها وحذفها .

وإذا شهد أنه قال : إن دخلت فلانة الدار فهي طالق وفلانة معها ، والآخر أنه قال : وحدها وقد دخلت ففلانة تطلق وحدها لأنهما اتفقا فيما وقع فيه الطلاق على واحدة ، ولو شهد واحد على تطليقة بائنة وآخر على تطليقة رجعية جازت على الرجعية ، وكذا إذا شهد على تطليقة والآخر على واحدة وواحدة أو على واحدة والآخر على واحدة وعشرين أو واحدة ونصف ، والأصل عنده أنها في العطف تصح في المعطوف عليه لاتفاقهما على اللفظ أو مرادفه ، بخلاف البائن فلذا لا تقبل شهادة أحدهما على واحدة والآخر على ثنتين عنده خلافا لهما لأن الذي شهد بثنتين لم يتكلم بالواحدة ولا بمرادفها ، وسيأتي هذا الأصل في باب الاختلاف في الشهادة

ولو شهد أنه قال : فلانة طالق لا بل فلانة ، والآخر على أنه سمى الأولى فقط جازت على الأولى ، ولو شهد أنه قال : طالق الطلاق كله والآخر على أنه قال بعد الطلاق لم تجز الشهادة عنده ، وعندهما تطلق واحدة ، ولو شهدا أنه قال : طالق والآخر أنه أقر بالطلاق جازت ، وكذا إن اختلفا في الوقت أو المكان أو الزمان بأن شهد أنه طلقها يوم النحر بمكة والآخر أنه طلقها في ذلك اليوم بالكوفة فهي باطلة لتيقن كذب أحدهما ، ولو شهدا بذلك في يومين متفرقين بينهما من الأيام قدر ما يسير الراكب من الكوفة إلى مكة جازت شهادتهما ، ولو شهد اثنان أنه طلق عمرة يوم النحر بالكوفة والآخر أنه طلق زينب يوم النحر بمكة فشهادتهما باطلة ، ولو جاءت إحدى البينتين فقضى بها ثم جاءت الأخرى لم يلتفت إليها ، وإذا قال رجل لامرأتيه : أيتكما أكلت هذا فهي طالق فجاءت كل ببينة أنها أكلته تطلقان جميعا ، وإن جاءت إحداهما ببينة فحكم بها ثم جاءت الأخرى لم يلتفت إليها ، وإن كانتا أكلتا لم تطلقا .




الخدمات العلمية