الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  45 1- حدثنا الحسن بن الصباح، سمع جعفر بن عون، حدثنا أبو العميس، أخبرنا قيس بن [ ص: 262 ] مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أخرج هذا الحديث هاهنا لأنه في بيان سبب نزول الآية التي هي من جملة الترجمة وهي قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم الآية.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم ستة الأول: الحسن أبو علي بن الصباح بتشديد الباء الموحدة ابن محمد البزار بزاي بعدها راء الواسطي سكن بغداد قالوا: كان من خيار الناس، وقال أحمد بن حنبل: ثقة صاحب سنة، وما يأتي عليه يوم إلا وهو يفعل فيه خيرا روى عنه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وروى الترمذي عن رجل عنه توفي ببغداد سنة ستين ومائتين فيما ذكر محمد بن طاهر، وابن عساكر، وقال محمد بن سرور المقدسي والكلاباذي: توفي سنة تسع وأربعين ومائتين، فعلى القول الأول تكون وفاته قبل البخاري لأن البخاري توفي سنة ست وخمسين ومائتين.

                                                                                                                                                                                  الثاني: جعفر بن عون بن جعفر بن عمرو بن حريث المخزومي أبو عون، قال ابن معين: هو ثقة، وقال أحمد: رجل صالح ليس به بأس، توفي بالكوفة سنة سبع ومائتين، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أبو العميس بضم العين المهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة، واسمه عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الهذلي المسعودي الكوفي أخو عبد الرحمن، قال يحيى وأحمد: ثقة، توفي سنة عشرين ومائة، روى له الجماعة.

                                                                                                                                                                                  الرابع: قيس بن مسلم أبو عمرو الجدلي الكوفي العابد سمع طارق بن شهاب، ومجاهدا وغيرهما، وعنه الأعمش، ومسعر، وغيرهما مات سنة عشرين ومائة.

                                                                                                                                                                                  الخامس: طارق بن شهاب بن عبد شمس بن سلمة بن هلال بن عوف بن جشم بن ظفر بن عمرو بن لؤي بن رهم بن معاوية بن أسلم بن أحمس بطن من بجيلة صحابي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأدرك الجاهلية، وغزا في خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ثلاثا وأربعين من بين غزوة وسرية، روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة، سكنالكوفة، توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، أخرج له البخاري عن أبي بكر، وابن مسعود، ومسلم عن أبي سعيد، وأبو داود، والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا ذكر الشيخ قطب الدين وفاته وهو وهم نبه عليه المزي، والذين قالوا في وفاته: هو سنة ثلاث وثمانين، وقيل: سنة اثنتين، وقيل: سنة أربع، وقال أبو داود: رأى طارق النبي عليه السلام ولم يسمع منه شيئا، قلت: بجيلة بفتح الباء الموحدة وكسر الجيم هي أم ولد أنمار بن أراش وهي بنت صعب بن العشيرة.

                                                                                                                                                                                  السادس: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها: أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ومنها: أن فيه رواية صحابي عن صحابي، ومنها: أن ثلاثة منهم كوفيون.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن محمد بن يوسف، وفي التفسير عن بندار، عن ابن مهدي كلاهما عن سفيان الثوري، وفي الاعتصام عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن مسعر وغيره كلهم عن قيس بن مسلم عن طارق، وأخرجه مسلم في آخر الكتاب عن زهير بن حرب، ومحمد بن المثنى كلاهما عن ابن مهدي به، وعن عبد بن حميد، عن جعفر بن عون به، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب كلاهما عن عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن قيس بن مسلم، وأخرجه الترمذي في التفسير عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة به، وقال: حسن صحيح، وأخرجه النسائي في الحج، عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الله بن إدريس به، وفي الإيمان عن أبي داود الحراني عن جعفر بن عون به.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات) قوله: "من اليهود" هو علم قوم موسى عليه السلام، وفي (العباب): اليهود اليهوديون ولكنهم حذفوا ياء الإضافة كما قالوا: زنجي وزنج، ورومي وروم، وإنما عرف على هذا الحد فجمع على قياس شعيرة وشعير، ثم عرف الجمع بالألف واللام، ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام لأنه معرفة مؤنث يجري في كلامهم مجرى القبيلة ولم يجر كالحي انتهى.

                                                                                                                                                                                  وسموا به [ ص: 263 ] اشتقاقا من "هادوا" أي مالوا أي في عبادة العجل، أو من دين موسى، أو من هاد إذا رجع من خير إلى شر، ومن شر إلى خير لكثرة انتقالهم من مذاهبهم، وقيل: لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة، وقيل: معرب من يهوذا بن يعقوب بالذال المعجمة ثم نسب إليه فقيل: يهودي، ثم حذفت الياء في الجمع فقيل: يهود، وكل منسوب إلى جنس، الفرق بينه وبين واحده بالياء وعدمها نحو روم ورومي كما ذكرناه، قوله: "معشر اليهود" المعشر الجماعة الذين شأنهم واحد، ويجمع على معاشر، قوله: "عيدا" على وزن فعل أصله عود لأنه من العود سمي به لأنه يعود في كل عام، وقال الزمخشري في قوله تعالى: تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا قيل: العيد هو السرور العائد ولذلك يقال: يوم عيد، وكأن معناه تكون لنا سرورا وفرحا، ويجمع على أعياد فرقا بينه وبين أعواد الذي هو جمع عود، قوله: "بعرفة" يوم عرفة هو التاسع من ذي الحجة، تقول: هذا يوم عرفة غير منون، ولا يدخلها الألف واللام لأن عرفة علم لهذا المكان المخصوص ففيها العلمية والتأنيث وقد يطلق على اليوم المعهود أيضا.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب) قوله: "سمع جعفر" فعل وفاعل ومفعول وقبله شيء مقدر تقديره: حدثنا الحسن بن الصباح أنه سمع جعفرا، وقد جرت عادة المحدثين بحذف أنه في مثل هذا الموضع في الخط، ولكن لا بد من قراءته كما يحذف لفظ "قال" خطا لا قراءة، قوله: "من اليهود" في محل النصب على أنه صفة لرجلا، أي رجلا كائنا من اليهود، قوله: "قال له" أي لعمر وهذه الجملة في محل الرفع لأنها خبر إن، قوله: "آية" مبتدأ وإن كان نكرة لأنه تخصص بالصفة وهي قوله: "في كتابكم" ، وقوله: "تقرؤونها" جملة في محل الرفع على أنها صفة أخرى للمبتدأ، والجملة الشرطية خبره أعني قوله: "لو علينا" إلى آخره، ويجوز أن يكون المخصص للمبتدأ صفة محذوفة تقديره: آية عظيمة، وقوله: "في كتابكم" خبره، وقوله: "تقرؤونها" خبر بعد خبر، ويجوز أن يكون الخبر محذوفا مقدرا فيما قبله، تقديره: في كتابكم آية، وقوله: "في كتابكم" المذكور مفسر له حذف ذاك حتى لا يجمع بين المفسر والمفسر، قوله: "لو علينا" تقديره: لو نزلت علينا لأن "لو" لا تدخل إلا على الفعل فحذف الفعل لدلالة الفعل المذكور عليه كما في قوله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك أي وإن استجارك أحد، وقوله تعالى: لو أنتم تملكون أي لو تملكون أنتم، قوله: "علينا" يتعلق بالمحذوف، قوله: "معشر اليهود" كلام إضافي منصوب على الاختصاص أي أعني معشر اليهود، قوله: "لاتخذنا" جواب الشرط، قوله: "قال: أي آية؟" أي قال عمر رضي الله عنه: أي آية هي؟ فالخبر محذوف، قوله: "وهو قائم" جملة اسمية وقعت حالا والباء في بعرفة ظرفية، وقد قلنا: إنه غير منصرف للعلمية والتأنيث والباء تتعلق بقوله: "قائم"، أو بقوله: "نزلت"، قوله: "يوم الجمعة" ، وفي بعض الروايات: يوم جمعة، وهي بفتح الميم وضمها وإسكانها، فإن قلت: ما الفرق بين فعلة ساكن العين وفعلة بتحريكها؟ قلت: إن الساكن بمعنى المفعول والمتحرك بمعنى الفاعل، يقال: رجل ضحكة بسكون الحاء أي مضحوك، وهذه قاعدة كلية، فإن قلت: عرفة غير منصرف اتفاقا لما ذكرت فما بال الجمعة منصرفا مع أنها مثلها في كونها اسما للزمان المعين، وفيه تاء التأنيث؟ قلت: عرفة علم والجمعة صفة أو غير صفة ليس علما، ولو جعل علما لامتنع من الصرف.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني) قوله: "إن رجلا من اليهود" اسم هذا الرجل هو كعب الأحبار صرح بذلك مسدد في (مسنده)، والطبري في (تفسيره)، والطبراني في (الأوسط) كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة، عن عبادة بن نسي بضم النون وفتح السين المهملة عن إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب عن كعب فإن قلت: روى البخاري في المغازي من طريق الثوري عن قيس بن مسلم أن ناسا من اليهود، وأخرج في التفسير من هذا الوجه بلفظ: قالت اليهود، فكيف التوفيق بين هذه الروايات؟ قلت: التوفيق فيها أن كعبا حين سأل عمر رضي الله عنه عن ذلك كان معه جماعة من اليهود. قوله: "أي آية" كلمة أي هاهنا للاستفهام، وهو اسم معرب معرفة للإضافة، وقد تترك الإضافة وفيه معناها، وإذا كان الذي أضيف إليه مؤنثا لا يجب دخول التاء فيه، وإنما يجب إذا وقع صفة لمؤنث نحو: مررت بامرأة أية امرأة، ونظير قوله: "أي آية" قوله تعالى: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت فإن قلت: ما الفرق بين الاستفهام به وبين الاستفهام بما نحو ما تلك الآية، قلت: السؤال بأي إنما هو عمل يميز أحد المشاركات وبما عن الحقيقة والغرض هاهنا طلب تعيين تلك الآية وتمييزها عن [ ص: 264 ] سائر الآيات التي في الكتاب مقروءة، قوله: "قد عرفنا ذلك اليوم" معناه: إنا ما أهملناه ولا خفي علينا زمان نزولها ولا مكان نزولها وضبطنا جميع ما يتعلق بها حتى صفة النبي عليه السلام وموضعه في زمان النزول وهو كونه عليه السلام قائما حينئذ وهو غاية في الضبط، وقال النووي: معناه: إنا ما تركنا تعظيم ذلك اليوم والمكان، أما المكان فهو عرفات وهو معظم الحج الذي هو أحد أركان الإسلام، وأما الزمان فهو يوم الجمعة، ويوم عرفة، وهو يوم اجتمع فيه فضلان وشرفان ومعلوم تعظيمنا لكل واحد منهما، فإذا اجتمعا زاد التعظيم فقد اتخذنا ذلك اليوم عيدا وعظمنا مكانه أيضا، وهذا كان في حجة الوداع وعاش النبي عليه السلام بعدها ثلاثة أشهر، قوله: "الذي نزلت فيه على النبي عليه الصلاة والسلام" زاد مسلم عن عبد بن حميد، عن جعفر بن عون في هذا الحديث ولفظه: "إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه"، ولأحمد عن جعفر بن عون: "والساعة التي نزلت فيها على النبي عليه السلام"، فإن قلت: كيف طابق الجواب السؤال لأنه قال: لاتخذناه عيدا، فقال عمر رضي الله عنه: عرفنا أحواله، ولم يقل: جعلناه عيدا، قلت: لما بين أن يوم النزول كان عرفة ومن المشهورات أن اليوم الذي بعد عرفة عيد للمسلمين فكأنه قال: جعلناه عيدا بعد إدراكنا استحقاق ذلك اليوم للتعبد فيه، فإن قلت: فلم ما جعلوا يوم النزول عيدا؟ قلت: لأنه ثبت في الصحيح أن النزول كان بعد العصر، ولا يتحقق العيد إلا من أول النهار، ولهذا قال الفقهاء: ورؤية الهلال بالنهار لليلة المستقبلة فافهم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية