الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 152 ] ( الفصل الرابع )

أن يجد ذلك بعد ما يحتاج إليه من قضاء دينه ، ومؤنة نفسه وعياله على الدوام .

فإذا كان عليه دين لله ، أو لآدمي ، وقد ملك الزاد والراحلة بعد وجوبه ، أو حين وجوبه ، لم يجب عليه الحج ؛ لأن وجوب قضاء دينه متقدم على وجوب الحج ، ولأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية .

فإن كان قد ملك الزاد والراحلة ، ثم لزمه الدين بعد ذلك ... . [ وإن كان الدين مؤجلا ، أو متروكا ... . ]

فإذا أراد أن يحج وعليه دين ... .

فإذا كان الدين على أبيه أو غيره : قدم الحج . قال أحمد - في رواية أبي طالب - : إذا كان معه مائتا درهم ، ولم يحج قط فإنه يقضي دينه ، ولا يحج ، فإن كان على أبيه دين فليحج الفريضة ، وإن كان قد حج الفريضة يقضي دين [ ص: 153 ] أبيه ، وإن كان الأب لم يحج دفع إلى أبيه حتى يحج . قال أحمد في رواية أبي طالب : ويجب على الرجل الحج ، إذ كان معه نفقة تبلغه إلى مكة ويرجع ، ويخلف نفقته لأهله ما يكفيهم حتى يرجع .

وكذلك ذكر ابن أبي موسى : السبيل في الطريق السالكة الزاد والراحلة المبلغان إلى مكة ، وإلى العود إلى منزله ، مع نفقة عياله لمدة سفره ، ولم يعتبر وجود ما ينفقه بعد الرجوع .

وهذا محمول على من له قوة على الكسب ؛ لأن أحمد وابن أبي موسى صرحا بأنه لا يلزمه بيع المنازل التي يؤجرها لكفايته ، وكفاية عياله ، وإنما يبيع ما يفضل عن كفايته ، وكفاية عياله ، ولا بد أن يترك لعائلته - الذين تجب عليه نفقتهم - ما يكفيهم مدة ذهابه ورجوعه ؛ لأن وجوب النفقة آكد ، ولهذا يتعلق بالكسب بخلاف الحج ؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كفى بالمرء إثما أن [ ص: 154 ] يضيع من يقوت ) . رواه أبو داود .

وإن كان فيهم من لا يلزمه - بعينه - نفقته لكن يخاف عليه الضياع كيتيم وأرملة ، ونحو ذلك ... .

ولا بد أن يرجع إلى كفاية له ، ولعياله على الدوام إما ربح تجارة ، أو صناعة ، أو أجور عقار ، ودواب ، أو ريع وقف عليه بعينه لأن ... .

فإن أمكنه أن يأخذ من وقف الفقراء ، أو الفقهاء ، أو بيت المال ونحوه من مال المصالح ... .

والمراد بالكفاية : ما يحتاج إليه مثله من طعام وكسوة ونحو ذلك ، ومن مسكن فإنه لا بد له من السكنى ، فليس عليه أن يبيع مسكنه ، ثم يسكن بأجر ، أو في وقف .

لكن إن كان واسعا يمكنه الاعتياض عنه بما دونه من غير مشقة لزمه أن يحج بالتفاوت .

وإن كان له كتب علم محتاج إليها لم يلزمه بيعها ، وإن لم يكن علمها فرضا عليه ؛ لأن حاجة العالم إلى علمه ... .

[ ص: 155 ] فإن كانت مما لا يحتاج إليها ، أو كان له بكتاب نسختان يستغني عن إحداهما : باع ما لا يحتاج إليه .

وإن أراد أن يشتري كتب علم ، أو ينفق في طلب العلم فقد قال عبد الله : سألت أبي عن رجل ملك خمسمائة درهم ، وهو رجل جاهل ، أيحج بها أم يطلب العلم ؟ فقال : يحج ؛ لأن الحج فريضة ، وليس الحديث عليه فريضة ، وينبغي أن يطلب العلم ، والفرق بينهما هذا لم يتعلم فالابتداء بفرض العين قبل فرض الكفاية أو النافلة : متعين ، والأول قد تعلم العلم ، وهو مقيد بالكتاب ، ففي بيع كتبه إخلال بما قد علمه من علمه .

وإذا كان له خادم يحتاج إلى خدمتها لم يلزمه بيعها . قال في رواية الميموني : إذا كان للرجل المسكن والخادم والشيء الذي لا يمكنه بيعه لأنه كفاية لأهله : فلا يباع ، فإذا خرج عن كفايته ومؤنة عياله : يباع .

وإذا كان به حاجة إلى النكاح فقال أحمد - في رواية أحمد بن سعيد - : إذا كان مع الرجل مال فإن تزوج به لم يبق معه فضل ، وإن حج خشي على نفسه ، فإنه إذا لم يكن له صبر عن التزويج : تزوج ، وترك الحج . وكذلك نقل أبو داود وغيره ، وعلى هذا عامة أصحابنا : أنه إن خشي العنت قدم النكاح [ ص: 156 ] ؛ لأنه واجب عليه ، ولا غنى به عنه فهو كالنفقة .

وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا : أنه يبدأ بالحج ، وقد قال أحمد في رواية جعفر بن محمد في رجل عنده أربعمائة درهم ، ويخاف على نفسه العنت ، ولم يحج ، وأبواه يأمرانه بالتزويج ، قال : يحج ولا يطيعهما في ذلك ، هكذا ذكرها أبو بكر في زاد المسافر ، ثم فصل كما تقدم عن أحمد ، ووجه ذلك : أنه متعين عليه بوجود السبيل إليه .

والعنت المخوف مشكوك فيه ، وهو نادر ، والغالب على الطباع خلاف ذلك ، فلا يفرط فيما تيقن وجوبه بما يشك فيه ، وأما إن لم يخش العنت : قدم الحج .

وإن قلنا : إن النكاح واجب ، فإن كانت له سرية لم يجب عليه بيعها ، واستبدال ما هو دونها ، ولا يجب عليه أن يطلق امرأته ليستفضل نفقتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية