الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولو قال : اختاري فقالت : قد اخترت نفسي يقع الطلاق إذا نوى الزوج ) لأن كلامها مفسر ، وما نواه الزوج من محتملات كلامه ( ولو قال : اختاري فقالت : أنا أختار نفسي فهي طالق ) والقياس أن لا تطلق لأن هذا مجرد وعد أو يحتمله ، فصار كما إذا قال لها : طلقي نفسك فقالت : أنا أطلق نفسي . [ ص: 82 ] وجه الاستحسان حديث { عائشة رضي الله عنها ، فإنها قالت لا بل أختار الله ورسوله } اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم جوابا منها ، ولأن هذه الصيغة حقيقة في الحال وتجوز في الاستقبال كما في كلمة الشهادة ، وأداء الشاهد الشهادة ، بخلاف قولها : أطلق نفسي لأنه تعذر حمله على الحال لأنه ليس بحكاية عن حالة قائمة ، ولا كذلك [ ص: 83 ] قولها : أنا أختار نفسي لأنه حكاية عن حالة قائمة وهو اختيارها نفسها ، ولو قال لها : اختاري اختاري اختاري فقالت : قد اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة طلقت ثلاثا في قول أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه ، ولا يحتاج إلى نية الزوج ( وقالا : تطلق واحدة ) وإنما لا يحتاج إلى نية الزوج لدلالة التكرار عليه إذ الاختيار في حق الطلاق هو الذي [ ص: 84 ] يتكرر لهما إن ذكر الأولى ، وما يجري مجراه إن كان لا يفيد من حيث الترتيب يفيد من حيث الإفراد فيعتبر فيما يفيد . [ ص: 85 ] وله أن هذا وصف لغو لأن المجتمع في الملك لا ترتيب فيه كالمجتمع في المكان ، والكلام للترتيب والإفراد من ضروراته ، فإذا لغا في حق الأصل لغا في حق البناء ( ولو قالت اخترت اختيارة فهي ثلاث في قولهم جميعا ) لأنها للمرة فصار كما إذا صرحت بها ولأن الاختيارة للتأكيد وبدون التأكيد تقع الثلاث فمع التأكيد أولى [ ص: 86 ] ( ولو قالت قد طلقت نفسي أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة يملك الرجعة ) لأن هذا اللفظ يوجب الانطلاق بعد انقضاء العدة فكأنها اختارت نفسها بعد العدة ( وإن قال لها أمرك بيدك في تطليقة أو اختاري تطليقة فاختارت نفسها فهي واحدة يملك الرجعة ) لأنه جعل لها الاختيار لكن بتطليقة وهي معقبة للرجعة بالنص .

التالي السابق


( قوله : فقالت أنا أختار نفسي ) المقصود أنها ذكرت بلفظ المضارع كأختار نفسي سواء ذكرت " أنا " أو لا ، ففي القياس لا يقع لأنه وعد ، كما لو قال : طلقي نفسك فقالت [ ص: 82 ] أنا أطلق حيث لا تطلق ، وكذا لو قال لعبده : أعتق رقبتك فقال : أنا أعتق لا يعتق .

وجه الاستحسان حديث عائشة في الصحيحين عنها قالت : { لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، ثم قال : إن الله تعالى قال لي { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } إلى قوله { أجرا عظيما } فقلت : ففي هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل الذي فعلت } .

وفي لفظ مسلم { بل أختار الله ورسوله } واعتبره صلى الله عليه وسلم جوابا . لا يقال : قد ذكرت أن التخيير الذي كان منه صلى الله عليه وسلم ليس هذا المتكلم فيه بل إنهن لو اخترن أنفسهن يطلقهن لأن المقصود بالاستدلال به اعتداده صلى الله عليه وسلم جوابا يفيد قيام معناه في الحال ، وقول المصنف ( ولأن هذه الصيغة حقيقة في الحال وتجوز في الاستقبال ) هو أحد المذاهب ، وقيل بالقلب ، وقيل مشترك بينهما ، وعلى اعتبار جعله للحال خاصا أو مشتركا لفظيا يرجح هنا إرادة أحد مفهوميه : أعني الحال بقرينة بكونه إخبارا عن أمر قائم في الحال ، وذلك يمكن في الاختيار لأن محله القلب فيصح الإخبار باللسان عما هو قائم بمحل آخر حال الإخبار كما في الشهادة ، وكلمة [ ص: 83 ] الشهادة ، بخلاف قولها : أطلق نفسي لا يمكن جعله إخبارا عن أمر قائم لأنه إنما يقوم باللسان ، فلو جاز قام به الأمران في زمن واحد وهو محال ، وهذا بناء على أن الإيقاع لا يكون بنفس أطلق لأنه لا تعارف فيه ، وقدمنا أنه لو تعورف جاز ومقتضاه أن يقع به هنا إن تعورف لأنه إنشاء لا إخبار ( قوله : ولا يحتاج إلى نية الزوج ) ولا إلى ذكر نفسها ذكره في الدراية لأن في لفظه ما يدل على إرادة الطلاق وهو التعدد ، وهو إنما يتعلق بالطلاق لا باختيار الزوج ، وهذا يفيد عدم الاحتياج إليها في القضاء ، حتى لو قال : لم أنو لم يلتفت إليه ، ويفرق بينهما ، لا عدم الاحتياج إليها في الوقوع فيما بينه وبين الله تعالى حتى يصير كالصريح ، ويدل على هذا رواية الزيادات باشتراط النية وإن [ ص: 84 ] كرر .

وما في الجامع قال اختاري اختاري اختاري بألف ينوي الطلاق فاشترط النية مع المال والتكرار فضلا عن أحدهما وهذا لما عرف أن الأحوال شروط ، لكن في شرح الزيادات لقاضي خان : لو كرر فقال : أمرك بيدك أمرك بيدك أو فأمرك بيدك أو وأمرك بيدك بالفاء أو بالواو فقالت : اخترت نفسي وقال الزوج : لم أنو الطلاق كان القول قوله لأن التكرار لا يزيل الإبهام ، وكذا لو كرر الاختيار انتهى وهو الوجه .

وتحقق في المسألة خلاف بين المشايخ ، وما ذكره المصنف ذكره الصدر الشهيد والعتابي وغيرهما ، وشرط أبو معين النسفي النية مع التكرار كقاضي خان . ومنهم من استشهد بما استشهدنا به في لزوم النية فيما بينه وبين الله تعالى من المنقول على لزوم النية مطلقا ولو في القضاء ، ولا يخفى بعده في مسألة الجامع الكبير ; لأن ذكر المال ظاهر في إرادة الطلاق فكيف يصدقه القاضي إذا أنكر إرادة الطلاق .

وأما ما في الزيادات من اشتراطها فيحمل على ما في نفس الأمر : أي يشترط للوقوع ثبوت النية في نفس الأمر لأن الأصل أن إثبات أجوبة المسائل من قولنا : يقع لا يقع يجب لا يجب إنما هو بالنسبة إلى نفس الأمر وليس كل ما يشترط في نفس الأمر يشترط للقضاء ، غير أنا مع ذلك اخترنا ما ذكره القاضي من أنه لو أنكر الطلاق بقوله : لم أنوه فالقول قوله : لانتهاض الوجه به لأن تكرار أمره بالاختيار لا يصيره ظاهرا في الطلاق لجواز أن يريد اختاري في المال واختاري في المسكن ونحوه ، وهو كاعتدي اعتدي اعتدي حيث يصدقه في إنكار نية الطلاق لإمكان إرادة اعتدي نعم الله ومعاصيك ونعمي .

وما في البدائع : لو قال : اختاري اختاري اختاري فاختارت نفسها فقال : نويت بالأولى طلاقا وبالباقيتين التأكيد لم يصدق لأنه لما نوى بالأولى الطلاق كان الحال حال مذاكرة الطلاق فكان الباقي طلاقا ظاهرا ، ومثله في المحيط ظاهر . وقال في الكافي في مسألة الكتاب : قيل لا بد من ذكر النفس ، وإنما حذف لشهرته لأن غرض محمد رحمه الله التفريع دون بيان صحة الجواب ، وعلى هذا فينبغي أن حذف النية في الجامع الصغير كذلك ( قوله : إن ذكر الأولى وما يجري مجراه إن كان لا يفيد من حيث الترتيب ) يعني هو في نفسه يفيد الفردية والنسبة المخصوصة ، فإن بطل الثاني في خصوص هذا المحل لاستحالته في المجتمع في الملك ، أعني الثلاث التي ملكتها بقوله اختاري ثلاث مرات ، إذ حقيقة الترتيب في أفعال الأعيان كما يقال صام حج [ ص: 85 ] لم يجز إبطال الآخر فيجب اعتباره ( قوله والكلام للترتيب ) ذكر في المبسوط لأبي حنيفة وجهين : أحدهما أن الأولى نعت لمؤنث فاستدعى مذكورا يوصف به والمذكور ضمنا الاختيارة ، فكأنها قالت : اخترت الاختيارة أو المرة الأولى ، ولو قالت ذلك طلقت ثلاثا .

والآخر أنها أتت بالترتيب لا فيما يليق وصفه به فيلغو ويبقى قولها اخترت فيكون جوابا للكل ، وهذا تتم الإشارة إليه بقوله : إن هذا وصف لغو إلى قوله في المكان ، فقوله : والكلام للترتيب ابتداء وجه يتضمن جواب قولهما إن كان لا يفيد الترتيب إلخ لا يطابق الوجه الأول . والمراد بالكلام لفظ الأولى ، فإن كثيرا من الأصوليين يطلقه على المفرد ، وبعضهم ينسبه إلى كلهم ، ثم يرد عليه منع أن الإفراد من ضرورة الترتيب الذي هو معنى الأولى ، بل كل منهما مدلوله ليس أحدهما تبعا للآخر ، حتى إذا لغا في حق الأصل لغا في حق البناء وهو الإفراد .

وإذا لغيا بقي قولها : اخترت وهو يصلح جوابا للكل فيقعن ، ولذا اختار الطحاوي قولهما . والجواب بعد تسليم أن الفردية مدلول تضمني فقد يكون أحد جزأي المدلول المطابقي هو المقصود والآخر تبعا كما هو المراد هنا من قوله : والإفراد من ضروراته فينتفي التبع بانتفاء المقصود والوصف كذلك ; لأنه وضع لذات باعتبار معنى هو المقصود فلم يلاحظ الفرد فيه حقيقيا أو اعتباريا كالطائفة الأولى والجماعة الأولى إلا من حيث هو متصف بتلك النسبة ، فإذا بطلت بطل الكلام . وقد ضعف بعضهم تعليل أبي حنيفة رحمه الله بأن الترتيب ثابت في اللفظ وإن لم يكن ثابتا في المعنى ، فصدق وصفها بالأولى والوسطى إلى آخره باعتبار أن قوله : اختاري اختاري جملة بعد جملة . والحاصل من هذا اخترت لفظتك الأولى أو كلمتك الأولى ، ولا معنى له أصلا بعد فرض إهدار وصف الطلاق به . وأبعد من هذا من رام الدفع عنه بأن المعنى اخترت الإيقاع بكلمتك الأولى لأن الإيقاع لا يكون بكلمته قط بل بكلمتها مريدة بها الطلاق .

ولو قال لها : اختاري ثلاثا فقالت : اخترت اختيارة أو الاختيارة أو مرة أو بمرة أو دفعة أو بدفعة أو بواحدة أو اختيارة واحدة تقع الثلاث اتفاقا لأنه جواب الكل ، حتى لو كان [ ص: 86 ] بمال لزم كله ( قوله : فهي واحدة يملك الرجعة ) وهو سهو بل بائن نص عليه محمد في الزيادات وفي الجامع الكبير والمبسوط والأوضح وشروح الجامع الصغير وجوامع الفقه وعامة الجوامع سوى جامع صدر الإسلام فإن فيه ما في الهداية .

وجه الصحيح أن الواقع بالتخيير بائن لأن التخيير تمليك النفس منها وليس في الرجعي ملكها نفسها وإيقاعها وإن كان بلفظ الصريح ، لكن إنما يثبت به الوقوع على الوجه الذي فوض به إليها ، والصريح لا ينافي البينونة كما في تسمية المال فيقع به لأنها لا تملك إلا ما ملكت ; ألا ترى أنه لو أمرها بالبائن فأوقعت الرجعي أو بالعكس وقع ما أمرها به لا ما أوقعته .

فإن قيل : ما الفرق بين اخترت وطلقت حيث يصح طلقت جوابا لاختاري حتى تقع به البائنة واخترت لا يصلح جواب طلقي نفسك حتى لا يقع به شيء إلا عند زفر .

وسنذكر جوابه في فصل الأمر باليد ( قوله : لكن بتطليقة ) قيل عليه لو كان كذلك لكان هذا كقوله : طلقي نفسك . وقد ذكرنا أنه لا يقع باخترت جوابا لطلقي نفسك . أجيب بأن آخر كلامه لما فسر الأول كان العامل هو المفسر وهو الأمر باليد والتخيير ، وقولها : اخترت يصلح جوابا له .



[ ص: 87 ] [ فروع ] . قال : أنت طالق إن شئت واختاري فقالت : شئت واخترت يقع ثنتان بالمشيئة والاختيار .



ولو قال : اختاري اختاري اختاري بألف فقالت : اخترت جميع ذلك وقعت الأوليان بلا شيء والثالثة بألف لأنها المقرونة بالبدل كما في الاستثناء والشروط ، وكذا لو قالت : اخترت نفسي اختيارة أو واحدة أو بواحدة .

ولو قالت : اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة تطلق ثلاثا بألف على قول أبي حنيفة ، وعلى قولهما وقعت واحدة بغير شيء إن قالت : اخترت الأولى أو الوسطى ، وبألف إن قالت : اخترت الأخيرة .



. ولو قالت : طلقت نفسي بواحدة أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة بائنة لأن التطليقة اسم للواحدة فلا يكون جوابا عن الكل بل البعض ، وبعد ذلك تسأل المرأة عن ذلك ، فإن قالت : عنيت الأولى أو الثانية وقعتا بلا شيء أو الثالثة بانت بألف .

ولو قال : اختاري واختاري واختاري بالعطف بألف فالألف مقابل بالثلاث للعطف ، فلو قالت : اخترت نفسي بتطليقة لم يقع شيء لأن الواحدة لو وقعت وقعت بثلث البدل ولم يرضه . ولو قالت : اخترت الأولى أو الثانية أو الثالثة وقعت ثلاث بألف عنده ، وعندهما لا يقع لأنه لو وقع وقع بثلث الألف . ولو قال لها : اختاري من ثلاث تطليقات ما شئت فلها اختيار واحدة أو ثنتين عند أبي حنيفة لا غير لأن من للتبعيض ، وعندهما تملك أن تطلق نفسها ثلاثا لأنها للبيان وهي معروفة .




الخدمات العلمية