الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا جعل أمرها بيدها أو خيرها فمكثت يوما لم تقم فالأمر في يدها ما لم تأخذ في عمل آخر ) لأن هذا تمليك التطليق منها ( لأن المالك من يتصرف برأي نفسه وهي بهذه الصفة والتمليك يقتصر على المجلس وقد بيناه ) [ ص: 94 ] ثم إن كانت تسمع يعتبر مجلسها ذلك ، وإن كانت لا تسمع فمجلس علمها وبلوغ الخبر إليها لأن هذا تمليك فيه معنى التعليق فيتوقف على ما وراء المجلس ، ولا يعتبر مجلسه لأن التعليق لازم في حقه ، بخلاف البيع لأنه تمليك محض لا يشوبه التعليق ، وإذا اعتبر مجلسها فالمجلس تارة يتبدل بالتحول [ ص: 95 ] ومرة بالأخذ في عمل آخر على ما بينا في الخيار ، ويخرج الأمر من يدها بمجرد القيام لأنه دليل الإعراض ، إذ القيام يفرق الرأي ، بخلاف ما إذا مكثت يوما لم تقم ولم تأخذ في عمل آخر لأن المجلس قد يطول وقد يقصر فيبقى إلى أن يوجد ما يقطعه أو ما يدل على الإعراض . وقوله مكثت يوما ليس للتقدير به .

وقوله ما لم تأخذ في عمل آخر يراد به عمل يعرف أنه قطع لما كان فيه لا مطلق العمل ( ولو كانت قائمة فجلست فهي على خيارها ) لأنه دليل الإقبال فإن القعود أجمع للرأي ( وكذا إذا كانت قاعدة فاتكأت أو متكئة فقعدت ) لأن هذا انتقال من جلسة إلى جلسة فلا يكون إعراضا ، كما إذا كانت محتبية فتربعت .

قال رضي الله عنه : هذا رواية الجامع الصغير ، وذكر في غيره أنها إذا كانت قاعدة فاتكأت لا خيار لها لأن الاتكاء إظهار التهاون بالأمر فكان إعراضا ، [ ص: 96 ] والأول هو الأصح .

ولو كانت قاعدة فاضطجعت ففيه روايتان عن أبي يوسف رحمه الله ( ولو قالت ادع أبي أستشره أو شهودا أشهدهم فهي على خيارها ) لأن الاستشارة لتحري الصواب ، والإشهاد للتحرز عن الإنكار فلا يكون دليل الإعراض ( وإن كانت تسير على دابة أو في محمل فوقفت فهي على خيارها ، وإن سارت بطل خيارها ) لأن سير الدابة ووقوفها مضاف إليها ( والسفينة بمنزلة البيت ) لأن سيرها غير مضاف إلى راكبها ، ألا ترى أنه لا يقدر على إيقافها وراكب الدابة يقدر . .

التالي السابق


( قوله : وإذا جعل أمرها بيدها أو خيرها فمكثت يوما لم تقم فالأمر في يدها ما لم تأخذ في عمل آخر ; لأن هذا تمليك التطليق منها لأن المالك من يتصرف برأي نفسه وهي بهذه الصفة والتمليك يقتصر على المجلس وقد بيناه ) أي في أول [ ص: 94 ] فصل الاختيار والذي ذكره هناك هو أن التمليك يستدعي جوابا في المجلس ، ولم يستدل على أنه تمليك ، واستدل هنا عليه بقوله لأن المالك هو الذي يتصرف برأي نفسه .

والوجه المشهور فيه قولهم هو الذي يتصرف لنفسه ، وإلا فالوكيل يتصرف برأي نفسه ، وكأنه تركه للعلم بأن التفويض إلى الأجنبي تمليك وهو لا يتصرف لنفسه ، وسنحقق ما ذكر في ذلك ليندفع الوكيل في المشيئة إن شاء الله تعالى ، وقدمنا ما في قوله يستدعي جوابا في المجلس ، فالصواب إسناد الاقتصار على المجلس إلى إجماع الصحابة حيث قالوا لها في المجلس ( قوله : ثم إن كانت تسمع ) أي تسمع لفظه بالتخيير ( اعتبر مجلسها ذلك ) أي مجلس سماعها ( وإن كانت لا تسمع فمجلس علمها ) على ما ذكرناه ( لأن هذا تمليك يفيد معنى التعليق ) أما أنه تمليك فلما تقدم من أنها عاملة لنفسها ، وأما أن فيه معنى التعليق فلأن الإيقاع وإن كان من غير الزوج إلا أن الوقوع مضاف إلى معنى من قبل الزوج فكأنه قال : إن طلقت نفسك فأنت طالق فيثبت للتفويض أحكام تترتب على جهة التمليك وأحكام على جهة التعليق ، والظاهر أن كلها مما يمكن ترتبها على التمليك ، فصحة التوقيت على أنه تمليك منفعة ، وقدمنا أن إلحاقه بالعارية أقرب .

ثم من صور التوقيت ما يوجب التوقف على ما وراء المجلس كأن يقول : أمرك بيدك شهرا أو جمعة فيعتبر ابتداؤه من وقت التفويض وليس هذا التوقف سوى امتداد الملك الذي تحقق في الحال ، وكذا عدم صحة الرد بعد سكوته أول الأمر بناء عليه لأنه بناء على ثبوت الملك الثابت بالتمليك على ما ذكرنا أنه لا يحتاج إلى القبول ، وأما اقتصاره على المجلس في التفويض المطلق فتقدم قول المصنف أنه تمليك وهو يستدعي جوابا في المجلس ، وتقدم أن الجواب الذي يستدعيه التمليك في المجلس القبول وليس الكلام فيه ، بل امتداده في تمام المجلس أثر الملك وارتفاعه بعده ، ونفس اقتصاره عليه [ ص: 95 ] بإجماع الصحابة .

فإن قلت : قد وقع في كلام بعضهم أن تطليقها نفسها قبول ، قلنا : لا يتم إذ هو التصرف المتفرع على ثبوت ملكه له .

أما عدم صحة الرجوع من الزوج فيناسب كلا من التعليق والتمليك ، لأنه لو ثبت يلزم بلا قضاء ولا رضا ، فقد ظهر أن جميع الآثار يصح ترتبها على جهة الملك هنا ، ولا حاجة إلى اعتبار جهة التعليق ، وقولهم كأنه قال : إذا طلقت نفسك فأنت طالق يمكن إجراؤه في الوكالة كأنه قال : إذا بعت متاعي فقد أجزت بيعك ، والولاية كأن الإمام قال له : إذا قضيت فقد أنفذت قضاءك كما قدمنا ، والاعتبارات التي لا أثر لها كثيرة في دائرة الإمكان ( قوله : وقوله : ) أي قول محمد رحمه الله تعالى ( ما لم تأخذ في عمل آخر يراد به أنه عمل يعرف أنه قطع لما كانت فيه ) فلو لبست من غير قيام أو أكلت قليلا أو شربت أو قرأت قليلا أو سبحت أو قالت ادع إلي أبي أستشيره أو الشهود وما أشبهه مما هو عمل الفرقة من غير أن تقوم في التفويض المطلق لم يبطل خيارها ، وما ذكر من هذا مثله في قوله : اختاري وطلقي نفسك وأنت طالق إن شئت ، وكذا إذ قال لأجنبي : أمر امرأتي بيدك أو طلقها إذا شئت أو إن شئت أو أعتق عبدي إذا شئت ، بخلاف قوله : بعه إن شئت لا يقتصر على المجلس لأن البيع لا يحتمل التعليق .

ولو اغتسلت أو امتشطت أو اختضبت أو جامعها يبطل . وذكر المرغيناني إن لم تجد من يدعو الشهود فقامت لتدعو ولم تنتقل ، قيل لا يبطل خيارها لعدم ما يدل على الإعراض ، وقيل يبطل للتبدل ولا تعذر فيه كما لا تعذر فيما إذا أقيمت كرها ، وقيل إذا لم تنتقل لم يبطل ، وإن انتقلت ففيه روايتان ، ولو نامت وهي قاعدة أو كانت تصلي المكتوبة أو الوتر فأتمتها أو النفل فأتمت ركعتين لا يبطل خيارها ، ولو قامت إلى الشفع الثاني بطل إلا في سنة الظهر عن محمد وهو الصحيح ، ولو قال : أمرك بيدك فقالت : لم لا تطلقني بلسانك فطلقت نفسها طلقت لأن قولها لم لا تطلقني ليس ردا فتملك بعده الطلاق .

قيل فيه نظر لأن قولها لم إلخ كلام زائد فيتبدل به المجلس [ ص: 96 ] وفيه نظر لأن الكلام المبدل للمجلس ما يكون قطعا للكلام الأول وإفاضته في غيره ، وليس هذا كذلك بل الكل متعلق بمعنى واحد وهو الطلاق ( قوله والأول أصح ) أي ما ذكر في الجامع الصغير أصح مما ذكر في غيره وهو الأصل ، لأن من حزبه أمر قد يستند لأجل التفكر لأن الاستناد والاتكاء سبب للراحة كالقعود في حق القائم ولأنه نوع جلسة فلا يتغير به الثابت للجالس ( قوله وإن سارت بطل ) قيل لو اختارت نفسها مع سكوته ، والدابة تسير طلقت لأنها لا يمكنها الجواب بأسرع من ذلك فلا يتبدل حكما ، وهذا لأن اتحاد المجلس إنما يعتبر ليصير الجواب متصلا بالخطاب وقد وجد إذا كان من غير فصل ، ولا فرق بين كون الزوج معها على الدابة أو المحمل أو لا ، ولو كانت راكبة فنزلت أو تحولت إلى دابة أخرى أو كانت نازلة فركبت بطل خيارها ، وفي المحمل يقوده الجمال وهما فيه لا يبطل ذكره في الغاية لأنه والحالة هذه كالسفينة ( قوله والسفينة كالبيت لأن سيرها غير مضاف إلى راكبها ) بل إلى غيره من الريح ودفع الماء فيما له جرية كالنيل فلا يبطل الخيار بسيرها بل يتبدل المجلس . وعن أبي يوسف أن السفينة إذا كانت واقفة فسارت بطل خيارها .




الخدمات العلمية