الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  445 116 - ( حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا عثمان بن عمر قال : أخبرنا يونس عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد ، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته ، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى يا كعب ، قال : لبيك يا رسول الله ، قال : ضع من دينك هذا ، وأومأ إليه أي : الشطر ، قال : لقد فعلت يا رسول الله ، قال : قم فاقضه ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وجه مطابقته للترجمة في التقاضي ظاهر ، وأما في الملازمة فبوجهين أحدهما أن كعبا لما طالب ابن أبي حدرد بدينه في [ ص: 228 ] مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لازمه إلى أن خرج النبي عليه السلام وفصل بينهما ، والآخر أنه أخرج هذا الحديث في عدة مواضع كما سنذكرها ، فذكر في باب الصلح ، وفي باب الملازمة عن عبد الله بن كعب عن أبيه أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد مال فلزمه . . . الحديث ، فكأنه أشار بلفظ الملازمة هنا إلى الحديث المذكور على أن ما ذكره في عدة مواضع كلها حديث واحد ، وله عادة في بعض المواضع يذكر التراجم بهذه الطريقة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم ستة : الأول : عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان أبو جعفر الجعفي البخاري المعروف بالمسندي مات يوم الخميس لست ليال بقين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين ومائتين . الثاني : عثمان بن عمر بضم العين ابن فارس البصري . الثالث : يونس بن يزيد . الرابع : محمد بن مسلم الزهري . الخامس : عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي المدني .

                                                                                                                                                                                  السادس : أبو كعب ابن مالك الأنصاري الشاعر أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، وأنزل الله فيهم : وعلى الثلاثة الذين خلفوا روي له ثمانون حديثا ، للبخاري منها أربعة ، مات بالمدينة سنة خمسين ، وكان ابنه عبد الله قائده حين عمي .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، والإخبار بصيغة الجمع أيضا في موضع واحد ، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع ، وفيه شيخ البخاري من أفراده ، وفيه رواية الابن عن الأب ، وفيه أن رواته ما بين بخاري وبصري ومدني .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في الصلح ، وفي الأشخاص عن عبد الله بن محمد ، وأخرجه أيضا في الملازمة ، وفي الصلح أيضا عن يحيى بن بكير عن الليث ، وأخرجه مسلم في البيوع عن حرملة عن ابن وهب به ، وعن إسحاق بن إبراهيم عن عثمان بن عمر به ، وأخرجه أبو داود في القضايا عن أحمد بن صالح عن ابن وهب به ، وأخرجه النسائي فيه عن أبي داود سليمان بن سيف عن عثمان بن عمر به ، وعن الربيع بن سليمان عن شعيب بن الليث عن أبيه ، وعن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن كعب بن مالك مرسلا ، وأخرجه ابن ماجه في الأحكام عن محمد بن يحيى الذهلي .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه وإعرابه ) ؛ قوله ( إنه تقاضى ) أي : أن كعبا تقاضى أي طالب ابن أبي حدرد بالدين ، وتقاضى على وزن تفاعل ، وأصل هذا الباب لمشاركة أمرين فصاعدا نحو تشاركا ؛ قال الكرماني : هو متعد إلى مفعول واحد ، وهو الابن . قلت : إذا كان تفاعل من فاعل المتعدي إلى مفعول واحد كضارب لم يتعد ، وإن كان من المتعدي إلى مفعولين كجاذبته الثوب يتعدى إلى واحد ، وقال الكرماني : دينا منصوب بنزع الخافض أي : بدين . قلت : إنما وجه بهذا لأنا قلنا إن تفاعل إذا كان من المتعدي إلى مفعولين لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ابن أبي حدرد ) اسم ابن أبي حدرد هو عبد الله بن أبي سلامة كما صرح به البخاري في أحد رواياته على ما ذكرنا ، وهو صحابي على الأصح شهد الحديبية ، وما بعدها مات سنة إحدى أو اثنتين وسبعين عن إحدى وثمانين سنة ، وقال الذهبي : عبد الله بن سلامة بن عمير هو ابن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي أمر على غير سرية ، وقال في باب الكنى : أبو حدرد الأسلمي سلامة بن عمير روى عنه ابنه عبد الله ، ومحمد بن إبراهيم ، وغيرهما ، وحروف حدرد كلها مهملة ، والحاء مفتوحة ، وكذا الراء والدال ساكنة ؛ قال الجوهري ثم الصنعاني : حدرد اسم رجل لم يأت من الأسماء على فعلع بتكرير العين غيره .

                                                                                                                                                                                  قوله ( كان له عليه ) جملة في محل النصب لأنها صفة لقوله ( دينا ) ؛ قوله ( في مسجد ) يتعلق بقوله ( تقاضى ) ؛ قوله ( أصواتهما ) من قبيل قوله تعالى : فقد صغت قلوبكما ويجوز اعتبار الجمع في صوتيهما باعتبار أنواع الصوت .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وهو في بيته ) جملة اسمية في محل النصب على الحال من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قوله ( فخرج إليهما ) ، وفي رواية الأعرج : " فمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم " ؛ ( فإن قلت ) : كيف التوفيق بين الروايتين لأن الخروج غير المرور . قلت : وفق قوم بينهما بأنه يحتمل أن يكون مر بهما أولا ثم إن كعبا لما أشخص خصمه للمحاكمة ، فتخاصما وارتفعت أصواتهما فسمعهما النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في بيته فخرج إليهما ، وقال بعضهم فيه بعد لأن في الطريقين أنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى كعب بالوضيعة ، وأمر غريمه بالقضاء ، فلو كان أمره بذلك تقدم لما احتاج إلى إعادته .

                                                                                                                                                                                  قلت : الذي استبعد هذا فقد أبعد لأن إعادته بذلك قد تكون للتأكيد لأن الوضيعة أمر مندوب ، والتأكيد بها مطلوب ثم قال هذا القائل ، والأولى فيما يظهر لي أن يحمل المرور على أمر معنوي لا حسي . قلت : إن أراد بالأمر المعنوي الخروج ففيه إخراج اللفظ عن معناه الأصلي بلا ضرورة ، والأولى [ ص: 229 ] أن يكون اللفظ على معناه الحقيقي ، ويكون المعنى أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع صوتهما خرج من البيت لأجلهما ومر بهما ، والأحاديث يفسر بعضها بعضا ولا سيما في حديث واحد روي بوجوه مختلفة . وفي رواية الطبراني من حديث زمعة بن صالح عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به ، وهو ملازم رجل في أوقيتين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هكذا يضع الشطر ، وقال الرجل : نعم يا رسول الله ، فقال : أد إليه ما بقي من حقه " ؛ قوله ( سجف حجرته ) بكسر السين المهملة وفتحها بعدها جيم ساكنة ، وقال ابن سيده : هو الستر ، وقيل : هو الستران المقرونان بينهما فرجة ، وكل باب ستر بسترين مقرونين فكل شق منه سجف ، والجمع أسجاف ، وسجوف ، وربما قالوا السجاف ، والسجف ، والسجيف إرخاء السجف زاد في ( المخصص ) ، و : ( الجامع ) ، وبيت مسجف ، وفي ( الصحاح ) أسجف الستر أي : أرسله ، وقال عياض وغيره : لا يسمى سجفا إلا أن يكون مشقوق الوسط كالمصراعين . قلت : الذي قاله ابن سيده يرده قوله ( لبيك ) تثنية لبا ، وهو الإقامة ، وهو مفعول مطلق يجب حذف عامله ، وهو من باب الثنائي الذي للتأكيد والتكرار ، ومعناه لبا بعد لب أي : أنا مقيم على طاعتك ؛ قوله ( ضع على وزن فع أمر من وضع يضع ؛ قوله ( أي الشطر ) تفسير لقوله هذا أي : ضع عنه الشطر أي : النصف ، وجاء لفظ النصف مصرحا في رواية الأعرج على ما يجيء إن شاء الله تعالى ، وهو منصوب لأنه تفسير للمنصوب ، وهو قوله هذا لأنه منصوب بقوله ضع ؛ قوله ( لقد فعلت ) مبالغة في امتثال الأمر لأنه أكد فعلت باللام وكلمة قد ، وفيه معنى القسم أيضا ؛ قوله ( قم ) خطاب لابن أبي حدرد ؛ قوله ( فاقضه ) أمر على جهة الوجوب لأن رب الدين لما أطاع بوضع ما أمر به تعين على المديان أن يقوم بما بقي عليه لئلا يجتمع على رب الدين وضيعة ومطل .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستنبط منه من الأحكام ) : فيه إشارة إلى أنه لا يجتمع الوضيعة ، والمطل لأن صاحب الدين يتضرر كما ذكرنا ، وفيه المخاصمة في المسجد في الحقوق والمطالبة بالديون ، قاله ابن بطال ، وفيه دليل على إباحة رفع الصوت في المسجد ما لم يتفاحش لعدم الإنكار منه عليه الصلاة والسلام ، وقد أفرد له البخاري بابا يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى ، ( فإن قلت ) : قد ورد في حديث واثلة من عند ابن ماجه يرفعه : " جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم " ، وحديث مكحول من عند أبي نعيم الأصبهاني عن معاذ مثله ، وحديث جبير بن مطعم ولفظه : " ولا ترفع فيه الأصوات " ، وكذا حديث ابن عمر من عند أبي أحمد . قلت : أجيب بأن هذه الأحاديث ضعيفة فبقي الأمر على الإباحة من غير معارض ، ولكن هذا الجواب لا يعجبني لأن الأحاديث الضعيفة تتعاضد ، وتتقوى إذا اختلفت طرقها ومخارجها ، والأولى أن يقال : أحاديث المنع محمولة على ما إذا كان الصوت متفاحشا ، وحديث الإباحة محمول على ما إذا كان غير متفاحش ، وقال مالك : لا بأس أن يقضي الرجل في المسجد دينا ، وأما التجارة والصرف فلا أحبه .

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز الاعتماد على الإشارة لقوله : ( هكذا ؛ أي الشطر ، وأنها بمنزلة الكلام إذا فهمت لدلالتها عليه فيصح على هذا يمين الأخرس وشهادته ولعانه ، وعقوده إذا فهم عنه ذلك .

                                                                                                                                                                                  وفيه إشارة الحاكم إلى الصلح على جهة الإرشاد ، وههنا وقع الصلح على الإقرار المتفق عليه ؛ لأن نزاعهما لم يكن في الدين ، وإنما كان في التقاضي ، وأما الصلح على الإنكار فأجازه أبو حنيفة ومالك ، وهو قول الحسن ، وقال الشافعي هو باطل ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وفيه الملازمة للاقتضاء ، وفيه الشفاعة إلى صاحب الحق ، والإصلاح بين الخصوم وحسن التوسط بينهم ، وفيه قبول الشفاعة في غير معصية ، وفيه إرسال الستور عند الحجرة .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية