الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1017 - وعن ابن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي . قال ابن سيرين : قد سماها أبو هريرة ، ولكن نسيت أنا - قال : فصلى بنا ركعتين ، ثم سلم ، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد ، فاتكأ عليها كأنه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى ، وخرجت سرعان القوم من أبواب المسجد ، فقالوا : قصرت الصلاة ؟ ! وفي القوم أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، فهاباه أن يكلماه ، وفي القوم رجل في يديه طول ، يقال له : ذو اليدين ، قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال : " لم أنس ولم تقصر " ، فقال : " أكما يقول ذو اليدين ؟ " فقالوا : نعم فتقدم فصلى ما ترك ، ثم سلم ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبر ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبر ، فربما سألوه ، ثم سلم ، فيقول : نبئت أن عمران بن حصين قال : ثم سلم ، متفق عليه ، ولفظه للبخاري ، وفي أخرى لهما : فـقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدل " لم أنس " ، ولم تقصر : كل ذلك لم يكن ، فقال : قد كان ذلك يا رسول الله ! .

التالي السابق


1017 - ( وعن ابن سيرين : تابعي مشهور ، قال مولانا عصام الدين في شرح الشمائل : الظاهر أنه كغسلين ، وأنه متصرف ; لأنه ليس فيه إلا العلمية ، لكن قيد في بعض الأصول بالفتح ، ووجهه غير ظاهر ، والعجمة فيه غير ظاهرة ، لأنه من بلاد العرب ، قلت : إنه مضبوط في جميع النسخ المصححة والأصول الحاضرة بالفتح ، ويوجه منع صرفه على رأي أبي علي الفارسي في اعتبار مطلق الزائدين كحمدون وعليون على ما ذكره الجعبري ، قال ابن حجر : اسمه محمد ، مولى أنس ، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان ، وأدرك ثلاثين صحابيا ، أمة في العلم والورع وتعبير الرؤيا ، لما رأى أن الجوزاء تقدمت الثريا أوصى وقال : يموت الحسن البصري ، ثم أنا لأنه أشرف مني فمات قبله بمائة يوم ( عن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : قال التوربشتي أي : أمنا ، يدخل فيه حرف التعدية ، فيفيد معنى قولنا : أمنا فجعلنا من المؤتمين بصلاته ، وقوله : صلى لنا ؛ اللام فيه قائم مقام الباء ، ويصح أن يراد صلى من أجلنا لما يعود إليهم من فائدة الجماعة ، ويصيب إليهم من البركة بسبب الاقتداء ، قلت : والباء تحتمل أيضا للسببية ، فتكون في معنى اللام التعليلية ، ( إحدى صلاتي العشي ) : قال الطيبي : إما الظهر أو العصر على ما رواه مسلم في صحيحه ، يأت في رواية : جزم بالظهر ، وفي أخرى بالعصر ، قال : وفي رواية أخرى صلى بنا رسول الله في الظهر أو العصر . والعشي : من حين تزول الشمس إلى أن تغيب اهـ .

فقول من قال : إما المغرب وإما العشاء غير صحيح رواية ودراية ، والعشي بفتح العين وكسر الشين وتشديد الياء على ما هو المشهور المذكور في مواضع من القرآن والحديث ، وضبطه ابن حجر هنا وقال : بضم فكسر من العشاء ، وهو الظلمة ، ومنه عشا البصر وأظلم اهـ ، وقد خبط خبط عشواء ، أي : ركبه على غير بصيرة ، ففي القاموس : عشا النار رآها ليلا من بعد فقصدها مستضيئا ، والعشوة ، بالضم والكسر : تلك النار ، وركوب الأمر على غير بيان ويثلث ، وبالفتح : الظلمة كالعشواء أو ما بين أول الليل إلى ربعه ، والعشاء : أول الظلام أو من المغرب إلى العتمة ، أو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر ، والعشي والعشية : آخر النهار ، وصلاة العشي : الظهر والعصر اهـ ، وهذا هو المراد .

[ ص: 802 ] ( - قال ابن سيرين : قد سماها أبو هريرة ) ، أي : تلك الصلاة بالخصوص ، ( ولكن نسيت أنا - ) : قال ابن حجر : وفي رواية عنه : وظني أنها العصر أو العشاء ، ثم قال : وإحدى صلاتيه هنا الظهر أو العصر ، كما أفصحت به رواية مسلم ، لكن في رواية أخرى له أيضا : بينا أنا أصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر ، ولصحة الروايتين قال النووي وغيره : إن واقعة أبي هريرة متعددة ، فكانت مرة في الظهر ومرة في العصر ، قلت : الأظهر أن القضية متحدة والصلاة هي العصر ، فإنها مجزومة في جميع الروايات ، وإنما التردد في غيرها فيترك الشك ويعمل بالمتيقن ، والله أعلم .

( قال ) ، أي : أبو هريرة ( فصلى بنا ركعتين ، ثم سلم فقام ) ، أي : من ذلك الموضع وأتى ( إلى خشبة معروضة ) ، أي : مطروحة وموضوعة بالعرض ، كقولهم : عرضت العود على الإناء ، ( في المسجد ) ، أي ، بمقدمه كما في رواية ، قيل : يحتمل أنها الجذع الذي كان - عليه السلام - يخطب مستندا إليه قبل اتخاذ المنبر اهـ ، ويؤيده رواية مسلم : جذعا في ناحية المسجد ، لكن يبعد ذلك التعبير بناحية المسجد ، ( فاتكأ عليها كأنه غضبان ) : ولعل غضبه لتأثير التردد والشك في فعله ، وكأنه كان غضبان فوقع له الشك لأجل غضبه ( ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ) ، أي : أدخل بعضها في بعض من فوق الكف ( ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى ) : وفي نسخة : الأيسر ، وهذا كله مبني منه على ظن أنه فرغ من الصلاة ، فلا ينافي ما سبق من النهي عن التشبيك في المتوجه إلى الصلاة فإنه في الصلاة حكما وثوابا ، قال ابن الملك : تشبيك الأصابع إن كان لمد الأصابع والاستراحة ، أو لأخذ اليدين على الركبتين ليتمكن من الجلوس ، أو لوضع الوجه أو الرأس على الركبتين فغير مكروه ، وإن كان للعب فمكروه اهـ .

وهو عجيب ; لأن التشبيك مطلق في الصلاة وحال القصد إليها مكروه ، وأما خارج الصلاة ولو كان للعب فمباح ، قال ابن حجر : وفي رواية عن عمران بن حصين : صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ، ثم دخل منزله ، وسيأتي مع بيان أنها واقعة أخرى ، ( وخرجت سرعان الناس ) : بفتح السين والراء ويسكن جمع : سريع ، وروي بكسر فسكون ورد بأنه خطأ ، وفي نسخة " القوم " بدل " الناس " ، ( من أبواب المسجد ) : قال الطيبي : سرعان مرفوع على أنه فاعل خرجت تدل عليه الرواية الأخرى للبخاري " خرج سرعان " ، وفيه أنه لا يحتمل غير الفاعلية حتى يحتاج إلى الأدلة النقلية ، وفي النهاية : السرعان ، بفتح السين والراء : أوائل الناس الذين يسارعون إلى الشيء ، ويجوز تسكين الراء نقله الطيبي ، قال العسقلاني : وحكى عياض أن الأصيلي ضبط بضم ثم إسكان كأنه جمع سريع ، ( فقالوا : قصرت ) : بالفتح والضم ، أي : صارت قصيرة ، قال النووي : وهذا أرجح وأكثر نقله العسقلاني ، وقيل بالضم والكسر ، أي : إن الله قصرها ( الصلاة ) : بالرفع على الفاعلية أو النيابة ( وفي القوم ) : أي الباقي في المسجد ( أبو بكر وعمر ، فهاباه ) ، أي : عظماه فضلا عن غيرهما ( أن يكلماه ) ، مما وقع له أنه سهو أو عمد ، فـ " أن يكلماه " : بدل اشتمال من ضمير " هاباه " لبيان أن المقصود هيبة تكليمه ، لا نحو نظره واتباعه ، فلا ينافي الحديث الحسن : " كان - عليه السلام - يخرج على أصحابه فلا ينظر إليه أحد منهم سوى أبي بكر وعمر ، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ويتبسمان إليه ويتبسم إليهما " ، قال الطيبي ، أي : فخشيا أن يكلما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقصان الصلاة ، قال ابن الملك : إعظاما لما ظهر عليه من أثر الغضب .

[ ص: 803 ] قال ابن حجر : وفي رواية سندها حسن عن ذي اليدين نفسه أنه لما قام - عليه السلام - تبعه أبو بكر وعمر وخرج سرعان الناس ، ( وفي القوم رجل في يديه طول ) ، أي : كانت يداه أطول من يدي القوم ( يقال له : ذو اليدين ) : وفي رواية : يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين إما لطول يده حقيقة أو مجازا كناية عن البذل والعمل ، قيل : اسمه : خرباق السلمي الحجازي ، وقال الطيبي : خرباق لقب له واسمه : عمير ويكنى أبا محمد ، وقال ابن الأثير في جامع الأصول : إن ذا اليدين رجل من بني سليم يقال له الخرباق ، صحابي حجازي ، شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سها في صلاته ، وقيل له أيضا ذو الشمالين ، فيما رواه مالك بن أنس عن الزهري ، قال ابن عبد البر : ذو اليدين غير ذي الشمالين ، وإن ذا اليدين هو الذي جاء ذكره في سجود السهو وأنه الخرباق ، وأما ذو الشمالين فإنه : عمير بن عبد عمرو ، قال ابن إسحاق : هو خزاعي قدم مكة ، أبوه شهد بدرا وقتل بها ، قال : وذو اليدين عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين ، وحديث سجود السهو قد شهده أبو هريرة ورواه ، وأبو هريرة . أسلم عام خيبر بعد بدر بأعوام ، فبهذا تبين لك أن ذا اليدين غير ذي الشمالين .

وكان الزهري مع علمه بالمغازي وجلالة قدره يقول : إن ذا اليدين هو ذو الشمالين المقتول ببدر ، وإن قصة السهو كانت قبل بدر ثم أحكمت الأمور ، قال : وذلك وهم منه ، وقال النووي : قد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطرابا يوجب رد الحديث من روايته خاصة ، وأهل الحديث تركوه لاضطرابه ، وأنه لم يتم له إسنادا ولا متنا وإن كان إماما عظيما ، فإن الغلط لا يسلم منه بشر ، والكمال لله سبحانه ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قال : يا رسول الله أنسيت ) : بالخطاب ( أم قصرت الصلاة ؟ ) : بالوجهين وأما بفتحتين فمتعد فـ " من " في قوله تعالى : أن تقصروا من الصلاة إما زائدة أو صفة لمحذوف أي : شيئا من الصلاة ، ويؤيده قراءة ابن عباس بضم فكسر ، وقراءة الزهري بذلك مع تشديد الصاد من " قصر " المضعف ، فهذان متعديان اتفاقا ودخلت من في حيزهما ، وظاهر كلام ابن حجر أن الفتحتين أيضا نسخة ، لكنها ليست من أصولنا ويأبى عنها أيضا قوله : ( فقال : " لم أنس ، ولم تقتصر " ) : بالوجهين بناء على ظنه ( فقال ) ، أي : بعد تردده بقول السائل ( " أكما يقول ذو اليدين ؟ ! " ) ، أي : أتقولون كقوله ، أو أكان كما يقول ؟ وفي رواية بعد قوله : " فلم أنس ولم تقصر " ، فقال : بلى قد نسيت يا رسول الله اهـ .

فلما جزم بالنسيان استثبت - عليه السلام - فقال : أوقع مني أني تركت نصف الصلاة كما يقول ؟ وعدل عن قال لتصوير صورة الحال الماضية حتى يستحضر ويتأمل ، قال الطيبي : وفي تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين به دليل على جواز التلقيب للتعريف دون التهجين ، ( فقالوا : نعم ) : وفي رواية للبخاري : صدق ، لم تصل إلا ركعتين ، قال ابن حجر : فحينئذ تيقن - عليه السلام - أنه ترك ركعتين إما لتذكره ، أو لكونهم عدد التواتر ، أو لإخبار الله له بالحال كما في رواية أبي داود ، واحتج مالك وأحمد بقولهم : نعم على جواز الكلام لمصلحة الصلاة ، وليس كما قالا لما مر أن من خصائصه - عليه السلام - كما صرحت به الأحاديث المصححة ، أنه يجب إجابته في الصلاة بالقول والفعل وإن كثر ، ولا تبطل به الصلاة ، وحينئذ لا يحتاج إلى ما روي عن ابن سيرين أنهم لم يقولوا نعم ، بل أومئوا بالإشارة ، ثم رأيت رواية صحيحة أنهم أومئوا ، أي : نعم ، ( فتقدم فصلى ما ترك ) .

قال الخطابي : فيه دليل على أن من تحول عن القبلة سهوا لم تكن عليه الإعادة ؛ قلت : ليس في الحديث دلالة على تحول القبلة : نعم هذا يرد في حديث عمران في أول الفصل الثالث ، والجواب أنه من جملة المنسوخات .

قال ابن حجر : فتقدم أي : مشى إلى محل صلاته إما لقربه فلم يمش إلا خطوتين ، وإما لبعده لكونه لم تتوال خطواته فهي واقعة حال فعلية محتملة ، فلا دليل فيها لجواز الفعل الكثير المتوالي في الصلاة ، قلت : معناه تقدم [ ص: 804 ] للإمامة ، وهو في موضعه فلا يحتاج إلى التكلفات العجيبة والتفريعات الغريبة وفي قوله : فصلى ما ترك ، قال ابن حجر : فيه أوضح حجة على بعض أصحاب أبي حنيفة في زعمه أن سلام التحلل سهوا يبطل الصلاة ، وما رووه عن عمر أنه لم يبن ، منقطع على أن سببه أنه تكلم بكلام أجنبي ، قلت : وهو غير مشهور في المذهب ( ثم سلم ) : قال القاضي : دل حديث عطاء على تقديم السجود على السلام ، وحديث أبي هريرة على تأخيره ، قال الزهري : كل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن تقديـم السجود كان آخر الأمرين ، وقال : قصة ذي اليدين كانت قبل بدر ، وحينئذ لم يحكم أمر الصلاة ولم يزل نسخ الكلام اهـ .

وفيه : أنه لا يلزم من نسخ الكلام نسخ جميع ما وقع في صلاته ، وليس في الحديث ما يدل على نسخ السجود بعد السلام ، وعند التعارض يرجح الأصح والأبين والأقيس ، فإنه أمر زائد على الصلاة خارج عنها تتم الصلاة بدونه إجماعا ، مع أن الخلاف في الأولوية ، حتى لو سجد قبل السلام عندنا يجوز على ما ذكره ابن الهمام ، وما أبعد قول ابن حجر " ثم " ، بمعنى " الواو " وقع سهوا أيضا اهـ ، وفيه جراءة عظيمة كما لا يخفى .

( ثم كبر ) ، أي : بعد السلام ، وفي رواية لأبي داود : فكبر ثم كبر وسجد للسهو " ، وبها أخذ من قال : لا بد في سجود السهو بعد السلام من تكبيرة الإحرام ، والجمهور اكتفوا بتكبيرة السجود أخذا بما في غالب الأحاديث الصحيحة ، وبأن تلك الرواية شاذة فلا يعمل بها ، ( وسجد ) ، أي : للسهو ( مثل سجوده ) ، أي : للفرض من الصلاة ، يعني : لبث فيه ما لبث في سجدة الفرض ، وغلط من قال : أنه مثله في الواجبات والسنن لقوله : ( أو أطول ) : أي : أكثر ( ثم رفع رأسه ) : أغرب ابن حجر وقال : فيه دليل على وجوب الجلوس بين السجدتين ، ووجه غرابته أن الجلوس حالة غير الرفع ، ( وكبر ، ثم كبر ) : أي للهوي ( وسجد مثل سجوده ) : للفرض ( أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبر ، فربما سألوه ) : الضمير المفعول إلى ابن سيرين والمسئول عنه قوله : ( ثم سلم ؟ ) : وقوله ( فيقول : نبئت ) : جواب ابن سيرين عن سؤالهم ( أن عمران بن حصين قال : ثم سلم ) ، أي : بعد سجود السهو مرة أخرى ، قال ابن حجر : لا يقال هذا منقطع لا يحتج به ; لأن ابن سيرين لم يدرك عمران ، ولم يذكر الواسطة بينهما ; لأن الحديث متصل كما يأتي عن مسلم ، قال الخطابي : في الحديث دليل على أنه لا تشهد لسجدتي السهو إن سجدهما بعد السلام .

قلت : ليس في الحديث دلالة على التشهد نفيا ولا إثباتا وقد ثبت في حديث رواه الطحاوي وسيأتي في حديث في أول الفصل الثاني ، وقال ابن الهمام ، عند قول صاحب الهداية : ثم يتشهد - : أشار إلى أن سجود السهو يرفع التشهد ، وأما رفع القعدة فلا ، ثم قيل : حديث ذي اليدين كان قبل تحريم الكلام في الصلاة ، فلذا لم يستأنفوا ، وقيل : أحكام هذا الحديث خصت بمن شهد تلك الصلاة فلم تقم الحجة عليهم يومئذ ، لأنها لم تكن شرعت قبل ذلك ، فعذروا في مبدأ أمر السهو فيما فعلوا ، وقالوا : وكان الحكم فيما امتحنوا به يومئذ على ذلك ، ثم تغيرت أحكام تلك الحادثة بعد ذلك والله أعلم ، ( متفق عليه ) : قال ميرك : ورواه الأربعة ، قال ابن حجر : أي اتفقا على المقصود منه ، فلا ينافيه خلو حديث مسلم عن ذكر وضع اليد والتشبيك ، وطرق حديث ذي اليدين كثيرة جدا ، حتى قال ابن عبد البر : ليس في أخبار الآحاد أكثر منه طرقا إلا قليلا اهـ ، فهو من قسم المستفيض المسمى بالمشهور ، ( ولفظه للبخاري ) .

قال ابن حجر : وفيه دليل على أن من سها بأشياء متعددة في صلاة واحدة لم يزد على سجدتين ، فإنه - عليه السلام - سلم وتكلم ، وهو مذهب عامة الفقهاء ، وشذ الأوزاعي فقال : يلزمه لكل سهو سجدتان ، ولا حجة له في [ ص: 805 ] خبر : " لكل سهو سجدتان " لأنه ضعيف منقطع ، وبفرض صحته ووصله هو مئول ومعارض بحديث ذي اليدين الذي هو أصح منه ، ( وفي أخرى ) ، أي : رواية أخرى ( لهما ) : أي للشيخين ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدل : " لم أنس " ) ، أي : مكان " لم أنس ولم تقصر " : " كل ذلك " ) ، أي : كل من النسيان والقصر ( " لم يكن " ) : قال ابن الملك : وهذا دليل على أن من ظن أنه فعل شيئا فقال فعلته ، أو قال ما فعلته ، وفي ظنه أنه لم يفعل ، ثم تبين خلاف ما ظن لم يأثم لأنه - عليه السلام - قال : كل ذلك لم يكن وقد كان السهو ، ( فقال ) ، أي : ذو اليدين ( قد كان بعض ذلك يا رسول الله ) : يعني : قصرت الصلاة ، ولكن لا أدري قصرها سهوا أو أمر الله تعالى بقصرها ، في شرح السنة : احتج الأوزاعي بهذا الحديث على أن الكلام العمد إذا كان من مصلحة الصلاة لا يبطل الصلاة ; لأن ذا اليدين تكلم عامدا ، والقوم أجابوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بنعم عامدين ، مع علمهم بأنهم لم يتموا الصلاة ، ومن ذهب إلى أن كلام الناس يبطل الصلاة زعم أن هذا كان قبل تحريم الكلام في الصلاة ، مع أنه كان ،بمكة وحدوث هذا الأمر كان بالمدينة ; لأن أبا هريرة متأخر الإسلام ، أما كلام القوم فقد روي عن ابن سيرين أنهم أومئوا بنعم ، ولو صح أنهم قالوه بألسنتهم لكان ذلك جوابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإجابة الرسول لا تبطل الصلاة ، لما روي : أنه - عليه السلام - مر على أبي بن كعب وهو في الصلاة فدعاه فلم يجبه ، ثم اعتذر إليه بالصلاة ، فقال له - عليه السلام - : " ألم تسمع إلى قوله تعالى : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ويدل عليه أنك تخاطبه في الصلاة بالسلام ، فتقول : السلام عليك أيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الخطاب مع غيره يبطل الصلاة ، وأما ذو اليدين فكان كلامه على تقدير النسخ وقصر الصلاة ، وكان الزمان زمان نسخ ، فكان كلامه على هذا التوهم في حكم الناسي .

وأما كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنما جرى على أنه قد كمل الصلاة ، فكان في حكم الناسي ، وجاء في الحديث : " إنما أنسى " كذا ذكره الطيبي ، قال الطحاوي : وقد زعم القائل بحديث ذي اليدين أن خبر الواحد تقوم به الحجة ويجب به العمل ، فقد أخبر ذو اليدين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رجل من أصحابه مأمون ، فالتفت بعد إخباره إلى أصحابه فقال : أقصرت الصلاة ؟ فكان متكلما بذلك مع علمه بأنه في الصلاة على مذهب هذا المخالف ، فلم يكن ذلك مخرجا من الصلاة ، فدل على أن هذا كان قبل نسخ الكلام في الصلاة ، ثم قال : فإن قال قائل : كيف يكون هذا منسوخا وأبو هريرة قد كان حاضرا ذلك ، وإسلام أبي هريرة إنما كان قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين ، ونسخ الكلام كان بمكة ، قيل له : أما ما ذكرت عن وقت إسلام أبي هريرة فهو كما ذكرت ، وأما ما ذكرت من أن نسخ الكلام في الصلاة كان بمكة فمن روى لك هذا ؟ وأنت لا تحتج إلا بسند ولا تسوغ خصمك الحجة عليك إلا بمثله ، فمن أسند لك هذا وعمن رويته ؟ وهذا زيد بن أرقم الأنصاري يقول : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت : وقوموا لله قانتين فأمر بالسكوت ، وقد روينا عنه ذلك في غير هذا الموضع في كتابنا ، وصحبة زيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت بالمدينة ، فقد ثبت بحديثه هذا أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة ، مع أن أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصلا ; لأن ذا اليدين قتل يوم بدر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أحد الشهداء ، قد ذكر ذلك محمد بن إسحاق وغيره .

وقد روي عن ابن عمر ما يوافق ذلك أنه ذكر حديث ذي اليدين فقال : كان إسلام أبي هريرة بعدما قتل ذو اليدين ، فقول أبي هريرة : صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني بالمسلمين - وهذا جائز في اللغة ، وقد روي مثل هذا عن النزال بن سبرة قال : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف فأنتم اليوم بنو عبد الله ونحن بنو عبد الله " ، فهذا النزال يقول : " قال لنا " ، وهو لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يريد بذلك قال لقومنا ، ومما يدل على نسخ الكلام في الصلاة ، وأنه كان بالمدينة ما ورد عن أبي سعيد الخدري قال : " كنا نرد السلام في الصلاة حتى نهينا عن ذلك " ، وأبو سعيد في السن أيضا لعله دون زيد بن أرقم بدهر طويل بل هو كذلك اهـ ، مختصرا .

[ ص: 806 ] -



الخدمات العلمية