الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب قاله ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        104 حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثني الليث قال حدثني سعيد هو ابن أبي سعيد عن أبي شريح أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به حمد الله وأثنى عليه ثم قال إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب فقيل لأبي شريح ما قال عمرو قال أنا أعلم منك يا أبا شريح لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة [ ص: 239 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 239 ] قوله : ( باب ليبلغ العلم ) بالنصب والشاهد بالرفع والغائب منصوب أيضا . والمراد بالشاهد هنا الحاضر ، أي ليبلغ من حضر من غاب ; لأنه المفعول الأول والعلم المفعول الثاني وإن قدم في الذكر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قاله ابن عباس ) أي رواه ، وليس هو في شيء من طرق حديث ابن عباس بهذه الصورة ، وإنما هو في روايته ورواية غيره بحذف العلم ، وكأنه أراد بالمعنى لأن المأمور بتبليغه هو العلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن أبي شريح ) هو الخزاعي الصحابي المشهور ، وعمرو بن سعيد هو ابن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي يعرف بالأشدق ، وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وهو يبعث البعوث ) أي يرسل الجيوش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم بالحرم ، وكان عمرو والي يزيد على المدينة ، والقصة مشهورة ، وملخصها أن معاوية عهد بالخلافة بعده ليزيد بن معاوية ، فبايعه الناس إلا الحسين بن علي وابن الزبير ، فأما ابن أبي بكر فمات قبل موت معاوية ، وأما ابن عمر فبايع ليزيد عقب موت أبيه ، وأما الحسين بن علي فسار إلى الكوفة لاستدعائهم إياه ليبايعوه فكان ذلك سبب قتله ، وأما ابن الزبير فاعتصم ويسمى عائذ البيت وغلب على أمر مكة ، فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهزوا إليه الجيوش ، فكان آخر ذلك أن أهل المدينة اجتمعوا على خلع يزيد من الخلافة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ائذن لي ) فيه حسن التلطف في الإنكار على أمراء الجور ليكون أدعى لقبولهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أحدثك ) بالجزم لأنه جواب الأمر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قام ) صفة للقول ، والمقول هو حمد الله إلخ .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( الغد ) بالنصب أي أنه خطب في اليوم الثاني من فتح مكة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سمعته أذناي . . . إلخ ) أراد أنه بالغ في حفظه والتثبت فيه وأنه لم يأخذه بواسطة ، وأتى بالتثنية تأكيدا ، والضمير في قوله : " تكلم به " عائد على قوله قولا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولم يحرمها الناس ) بالضم أي : أن تحريمها كان بوحي من الله لا من اصطلاح الناس .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يسفك ) بكسر الفاء وحكي ضمها ، وهو صب الدم ، والمراد به القتل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولا يعضد ) بكسر الضاد المعجمة وفتح الدال أي : يقطع بالمعضد وهو آلة كالفأس .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإنما أذن لي ) أي الله ، روي بضم الهمزة . وفي قوله " لي " التفات لأن نسق الكلام " وإنما أذن له " أي : لرسوله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ساعة ) أي : مقدارا من الزمان ، والمراد به يوم الفتح . وفي مسند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ذلك كان من طلوع الشمس إلى العصر ، والمأذون له فيه القتال لا قطع الشجر .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 240 ] قوله : ( ما قال عمرو ) أي : في جوابك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لا تعيذ ) بضم المثناة أوله وآخره ذال معجمة أي : مكة لا تعصم العاصي عن إقامة الحد عليه

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولا فارا ) بالفاء والراء المشددة أي : هاربا عليه دم يعتصم بمكة كيلا يقتص منه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( بخربة ) بفتح المعجمة وإسكان الراء ثم موحدة يعني السرقة كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي ، قال ابن بطال : الخربة بالضم الفساد ، وبالفتح السرقة . وقد تشدق [1] عمرو في الجواب وأتى بكلام ظاهره حق لكن أراد به الباطل ، فإن الصحابي أنكر عليه نصب الحرب على مكة فأجابه بأنها لا تمنع من إقامة القصاص ، وهو صحيح إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمرا يجب عليه فيه شيء من ذلك ، وسنذكر مباحث هذا الحديث في كتاب الحج ، وما للعلماء فيه من الاختلاف في القتال في الحرم إن شاء الله تعالى . وفي الحديث شرف مكة ، وتقديم الحمد والثناء على القول المقصود ، وإثبات خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستواء المسلمين معه في الحكم إلا ما ثبت تخصيصه به ، ووقوع النسخ ، وفضل أبي شريح لاتباعه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ عنه وغير ذلك .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية