الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  449 121 - ( حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع علي الصلاة ، فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم ، فذكرت قول أخي سليمان : لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي قال روح : فرده خاسئا ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وجه مطابقته للترجمة في قوله ( الأسير ) ظاهر ، وأما في قوله ( والغريم ) ، فبالقياس عليه لأن الغريم مثل الأسير في يد صاحب الدين .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) ، وهم ستة : الأول : إسحاق بن إبراهيم ، وهو ابن راهويه تقدم في كتاب العلم . الثاني : روح بفتح الراء ابن عبادة بضم العين المهملة وخفة الباء الموحدة . الثالث : محمد بن جعفر المشهور بغندر . الرابع : شعبة بن الحجاج . الخامس : محمد بن زياد بكسر الزاي المعجمة وتخفيف الياء آخر الحروف ، تقدم ذكره في باب غسل الأعقاب . السادس : أبو هريرة رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في أربعة مواضع ، وفيه رواية إسحاق عن شيخين ، وفيه القول بينه وبينهما ، وفيه أن رواته ما بين مروزي وبصري .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن محمد بن بشار ، وفي التفسير عن إسحاق بن إبراهيم أيضا ، وفي أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن محمد بن بشار أيضا ، وفي صفة إبليس عن محمود ومحمد فرقهما كلاهما عن شبابة ، وأخرجه مسلم في الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم ، وإسحاق بن منصور ، وعن محمد بن بشار عن غندر ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأخرجه النسائي في التفسير عن غندر عن بندار .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه وإعرابه ) ؛ قوله ( إن عفريتا ) قال ابن الحاجب : وزنه فعليت ، وفي ( المحكم ) رجل عفر ، وعفرية ، وعفاريت ، وعفريت بين العفارة خبيث منكر ، وقال الزجاج : العفريت النافذ في الأمر ، المبالغ فيه من خبث ودهاء ، وقد تعفرت ، وفي ( الجامع ) ، والشيطان عفريت ، وعفرية ، وهم العفاريت ، والعفارية ، وفي القرآن : قال عفريت من الجن وقرأ بعض القراء : ( قال عفرية من الجن ) ، قال الجوهري : إذا سكنت الياء صيرت الهاء تاء ، وإذا حركتها فالتاء هاء في الوقف ؛ قوله ( من الجن ) قال ابن [ ص: 234 ] سيده : الجن نوع من العالم ، والجمع جنان ، وهم الجنة ، والجني منسوب إلى الجن والجنة ، والجنة طائف من الجن ، والمجنة الجن ، وأرض مجنة كثيرة الجن ، والجان أبو الجن ، والجان الجن ، وهو اسم جمع .

                                                                                                                                                                                  واعلم أن الموجود الممكن الذي ليس بمتحيز ولا صفة للمتحيز هم الأرواح ، وهي إما سفلية وإما علوية ، فالسفلية إما خيرة ، وهم صالحو الجن ، أو شريرة وهم مردة الشياطين ، والعلوية إما متعلقة بالأجسام وهي الأرواح الفلكية ، أو غير متعلقة بالأجسام وهي الأرواح المقدسة ، وقال ابن دريد : الجن خلاف الإنس ، يقال : جنه الليل وأجنه ، وجن عليه وغطاه في معنى واحد إذا ستره ، وكل شيء استتر فقد جن عنك ، وبه سميت الجن ، وقال ابن عقيل : إنما سمي الجن جنا لاستجنانهم واستتارهم عن العيون ، ومنه سمي الجنين جنينا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( تفلت ) بفتح الفاء وتشديد اللام أي : تعرض لي فلتة أي : بغتة ، وفي ( المحكم ) أفلت الشيء إذا أخذه بغتة في سرعة ، وكان ذلك فلتة أي : فجأة ، والجمع فلتات لا يجاوز بها جمع السلامة ، والفلتة الأمر يقع من غير إحكام ، وفي ( المنتهى ) : تفلت علينا وإلينا ، وفي ( الصحاح ) : أفلت الشيء يفلت ، وانفلت بمعنى ، وأفلته غيره .

                                                                                                                                                                                  قوله ( البارحة ) هي أقرب ليلة مضت ، وفي ( المنتهى ) كل زائل بارح ، ومنه سميت البارحة أدنى ليلة زالت عنك تقول : لقيته البارحة ، والبارحة الأولى ، ومنذ ثلاث ليال ، وفي ( المحكم ) البارحة هي الليلة الخالية ، ولا تحقر ، وقالقاسم في ( كتاب الدلائل ) يقال : بارحة الأولى يضاف الاسم إلى الصفة كما يقال : مسجد الجامع ، ومنه الحديث : " كانت لي شاة فعدا عليها الذئب بارحة الأولى " ، وانتصابها على الظرفية ؛ قوله ( أو كلمة نحوها ) أي : أو قال كلمة نحو تفلت علي البارحة مثل قوله في رواية أخرى للبخاري : " عرض لي فشد علي " ، ووقع في رواية عبد الرزاق : " عرض لي في صورة هر " ، وفي رواية مسلم من حديث أبي الدرداء : " جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي " ؛ قوله ( إلى سارية ) ، وهي الأسطوانة ؛ قوله ( حتى تصبحوا ) أي : حتى تدخلوا في الصباح ، وهي تامة لا تحتاج إلى خبر ؛ قوله ( كلكم ) بالرفع تأكيد للضمير المرفوع ؛ قوله : رب اغفر لي وهب لي كذا في رواية أبي ذر ، وفي بقية الروايات هنا : ( رب هب لي ) ؛ قال الكرماني : ولعله ذكره على قصد الاقتباس من القرآن لا على قصد أنه قرآن انتهى ، ووقع في رواية مسلم كما في رواية أبي ذر ، والأخوة بين سليمان وبين سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بحسب أصول الدين أو بحسب المماثلة في الدين .

                                                                                                                                                                                  قوله ( قال روح : فرده خاسئا ) أي : قال روح بن عبادة المذكور في سند الحديث : فرده النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي : العفريت حال كونه خاسئا أي : مطرودا ، وفي ( المحكم ) الخاسئ من الكلاب والخنازير والشياطين البعيد الذي لا يترك أن يدنو من الناس ، وخسأ الكلب يخسأ خسأ ، وخسوءا فخسأ ، وانخسأ ، ويقال : اخسأ إليك ، واخسأ عني ، وفي ( الصحاح ) : خسأت الكلب طردته ، وخسأ الكلب نفسه يتعدى ، ولا يتعدى ، ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر الذليل ، ثم إن قوله هذا بحسب الظاهر يدل على أن هذه الزيادة في رواية روح دون رفيقه محمد بن جعفر ، ولكن البخاري روى في أحاديث الأنبياء عن محمد بن بشار عن محمد بن جعفر وحده ، فزاد في آخره أيضا : " فرددته خاسئا " ، وفي رواية مسلم : " فرده الله خاسئا " ، فعلى هذا دل على أن قوله ( قال روح ) داخل تحت الإسناد ، وبهذا يحصل الجواب عن قول الكرماني ، ( فإن قلت ) : هذا تعليق للبخاري منه أو هو داخل تحت الإسناد السابق .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستنبط منه من الفوائد ) : الأولى : قال الخطابي : فيه دليل على أن رؤية الجن البشر غير مستحيلة ، والجن أجسام لطيفة ، والجسم وإن لطف فدركه غير ممتنع أصلا ، وأما قوله تعالى : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم فإن ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم امتحنهم الله بذلك ، وابتلاهم ليفزعوا إليه ، ويستعيذوا به من شرهم ، ويطلبون الأمان من غائلتهم ، ولا ينكر أن يكون حكم الخاص والنادر من المصطفين من عباده بخلاف ذلك ، وقال الكرماني : لا حاجة إلى هذا التأويل ؛ إذ ليس في الآية ما ينفي رؤيتنا إياهم مطلقا ؛ إذ المستفاد منها أن رؤيته إيانا مقيدة من هذه الحيثية فلا نراهم في زمان رؤيتهم لنا قط ، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت .

                                                                                                                                                                                  الثانية : فيه دليل على أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم الناري ، ولأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي عفريتا من الجن يطلبني بشعلة من نار كلما التفت إليه رأيته " ، ولو كانوا باقين على عنصرهم الناري ، وأنهم نار محرقة لما احتاجوا إلى أن يأتي الشيطان أو العفريت منهم بشعلة من نار ، ولكانت يد الشيطان أو العفريت أو شيء من أعضائه إذا مس ابن آدم أحرقه كما تحرق الآدمي النار الحقيقية بمجرد اللمس ، فدل على أن تلك النارية انغمرت في سائر العناصر [ ص: 235 ] حتى صار إلى البرد ، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " حتى وجدت برد لسانه على يدي " ، وفي رواية : " برد لعابه " .

                                                                                                                                                                                  الثالثة : فيه دليل على أن أصحاب سليمان صلى الله عليه وسلم كانوا يرون الجن ، وهو من دلائل نبوته ، ولولا مشاهدتهم إياهم لم تكن تقوم الحجة له لمكانته عليهم .

                                                                                                                                                                                  الرابعة : قال ابن بطال : رؤيته صلى الله عليه وسلم للعفريت هو مما خص به كما خص برؤية الملائكة ، وقد أخبر أن جبريل صلى الله عليه وسلم له ستمائة جناح ، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم الشيطان في هذه الليلة ، وأقدره الله عليه لتجسمه لأن الأجسام ممكن القدرة عليها ، ولكنه ألقي في روعه ما وهب سليمان صلى الله عليه وسلم ، فلم ينفذ ما قوي عليه من حبسه رغبة عما أراد سليمان الانفراد به ، وحرصا على إجابة الله تعالى دعوته ، وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم من الناس فلا يمكن منه ، ولا يرى أحد الشيطان على صورته غيره صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : إنه يراكم الآية ، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وجده في بيته على صورة حية فقتله فمات الرجل به ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : " إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فإذا رأيتم من هذه الهوام شيئا فأذنوه ثلاثا ، فإن بدا لكم فاقتلوه " ، رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث أبي سعيد الخدري .

                                                                                                                                                                                  ثم اعلم أن الجن يتصورون في صور شتى ، ويتشكلون في صور الإنسان والبهائم ، والحيات والعقارب ، والإبل والبقر والغنم ، والخيل والبغال والحمير ، وفي صورة الطيور ، وقال القاضي أبو يعلى : ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقتهم والانتقال في الصور إنما يجوز أن يعلمهم الله كلمات وضربا من ضروب الأفعال إذا فعله وتكلم به نقله الله من صورة إلى صورة أخرى ، وأما أن يتصور بنفسه فذلك محال لأن انتقالها من صورة إلى صورة إنما يكون بنقض البنية ، وتفريق الأجزاء ، وإذا انتقضت بطلت الحياة ، والقول في تشكل الملائكة كذلك .

                                                                                                                                                                                  الخامسة : فيه دليل على إباحة ربط الأسير في المسجد ، وعلى هذا بوب البخاري الباب ، ومن هذا قال المهلب : إن في الحديث جواز ربط من خشي هروبه بحق عليه أو دين ، والتوثق منه في المسجد أو غيره ، ( فإن قلت ) : قوله صلى الله عليه وسلم : ( وأردت أن أربطه ) ما وجهه وهو في الصلاة . قلت : يحتمل أن يكون ربطه بعد تمام الصلاة أو يربطه بوجه كان شغلا يسيرا فلا تفسد به الصلاة .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية