الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن قال لها أنت طالق كيف شئت طلقت تطليقة يملك الرجعة ) ومعناه قبل [ ص: 108 ] المشيئة ، فإن قالت : قد شئت واحدة بائنة أو ثلاثا وقال الزوج ذلك نويت فهو كما قال ، لأن عند ذلك تثبت المطابقة بين مشيئتها وإرادته ، أما إذا أرادت ثلاثا والزوج واحدة بائنة أو على القلب تقع واحدة رجعية لأنه لغا تصرفها لعدم الموافقة فبقي إيقاع الزوج وإن لم تحضره النية تعتبر مشيئتها فيما قالوا جريا على موجب التخيير قال رضي الله عنه [ ص: 109 ] وقال في الأصل هذا قول أبي حنيفة رحمه الله ( وعندهما لا يقع ما لم توقع المرأة فتشاء رجعية أو بائنة أو ثلاثا ) وعلى هذا الخلاف العتاق لهما أنه فوض التطليق إليها على أي صفة شاءت فلا بد من تعليق أصل الطلاق بمشيئتها لتكون لها المشيئة في جميع الأحوال : أعني قبل الدخول وبعده . ولأبي حنيفة رحمه الله أن كلمة كيف [ ص: 110 ] للاستيصاف ، يقال كيف أصبحت والتفويض في وصفه يستدعي وجود أصله ووجود الطلاق بوقوعه .

التالي السابق


( قوله ولو قال لها : أنت طالق كيف شئت طلقت ) إن كانت غير [ ص: 108 ] مدخول بها طلقة بائنة ، وخرج الأمر من يدها لفوات محليتها بعدم العدة ، وإن كانت مدخولا بها طلقت طلقة رجعية بمجرد قوله ذلك شاءت أو لا ، ثم إن قالت : شئت بائنة أو ثلاثا وقد نوى الزوج ذلك تصير كذلك للمطابقة ، وإن اختلفا بأن شاءت بائنة والزوج ثلاثا أو على القلب فهي رجعية لأنه لغت مشيئتها لعدم الموافقة فبقي إيقاع الزوج بالصريح ونيته لا تعمل في جعله بائنا ولا ثلاثا ، ولو لم تحضر الزوج نية لم يذكره في الأصل ويجب أن تعتبر مشيئتها ، حتى لو شاءت ثلاثا أو بائنة ولم ينو الزوج يقع ما أوقعت بالاتفاق على اختلاف الأصلين .

أما على أصله فلأنه أقامها مقام نفسه في إثبات الوصف لأن كيف للحال ، والزوج لو أوقع رجعيا يملك جعله بائنا وثلاثا عند أبي حنيفة ، فكذا المرأة عند هذا التفويض تملك جعل ما وقع كذلك ، وأما عندهما فكذلك تملك إيقاع البائن والثلاث لأنه تفويض أصل الطلاق إليها على أي وصف شاءت ، كذا في الكافي وهذا الذي ذكرنا من وقوع الرجعية قبل مشيئتها قول أبي حنيفة ، أما عندهما فما لم تشأ لم يقع شيء [ ص: 109 ] وعلى هذا الخلاف أنت حر كيف شئت ) يقع للحال عنده وعندهما يتوقف على المشيئة .

والحاصل أن أصل الطلاق لا يتعلق بمشيئتها عنده بل بصفته وعندهما يتعلقان معا بمشيئتها . وما قيل : إن العتق لا كيفية له ليتعلق فيقع ألبتة يوهم عدم الخلاف أو ترجيح العتق بذلك لكن الثابت ما سمعت من الخلاف وعدم كيفية زائدة على أصل العتق ممنوع بل له كيفية زائدة على ذلك من كونه معلقا ومنجزا على مال وبدونه على وجه التدبير وغيره مطلقا عما يأتي من الزمان ومقيدا به ( قوله فلا بد من تعليق أصل الطلاق بمشيئتها ) لأنه لو لم يتعلق أصله بمشيئتها حتى وقع دونها وقع موصوفا ألبتة ضرورة عدم انفكاك الذات عن الوصف فقد ثبت وصف لا بمشيئتها ، وقد كان كل وصف بمشيئتها هذا خلفا ، وأبو حنيفة يقول : حقيقة قوله أنت طالق تنجيز لأصل الطلاق جاعلا صفته على مشيئتها ، ومن ضرورة إثبات أصله وصف الرجعة فكان في نفس كلامه هذا مخصصا بعض الأوصاف من عمومها . بقي أي الأمرين أولى ؟ تخصيص العام للمحافظة على حقيقة اللفظ التي هي تنجيز أصل الطلاق أو اعتبار أصله معلقا للمحافظة على حقيقة العموم ؟ والنظر في ترجيح الأول لأن تخصيص العام أغلب من اعتبار المنجز معلقا لأنه لا يكاد يثبت .

وأما ما رجح به في الكافي من أن بتقدير قولهما يبطل الاستيصاف والكلام يحمل على التخصيص دون التعطيل فإنما يتم لو كان كيف في التركيب للاستيصاف ، ولا يخفى أن معنى الاستخبار هنا غير مراد أصلا ، بل تركيب كيف شئت مجاز عن كل كيفية شئتها كقوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } أي ينظرون إلى كيفية خلقها . فإن قلت : فلو لم يعتبر كيف شرطا وهو أحد استعماليها فيترجح قولهما لأن تعليق أصل الطلاق حينئذ حقيقة اللفظ .

فالجواب لا يجوز لأن شرط شرطيتها اتفاق فعلي الشرط والجزاء لفظا ومعنى نحو كيف تصنع أصنع . وما قيل في توجيه قولهما أن غير المحسوس حاله وأصله سواء بناء على امتناع قيام العرض بالعرض ، فليس أحدهما قائما بالآخر بل كل منهما يقوم بالجسم فلزم منه كون الطلاق ليس موجودا بدون الكيفية بل كل من الطلاق وكيفيته سواء في الأصلية والفرعية ، [ ص: 110 ] فإذا تعلق أحدهما بمشيئتها تعلق الآخر ، فحاصله ذكر مبنى آخر غير ما تقدم من ضرورية تعلق الأصل على ما ذكرنا وهو ضعيف إذ المبنى ليس إلا التلازم فما يثبت لأحدهما يثبت للآخر ، ولا دخل لامتناع قيام العرض بالعرض في ذلك فالتقرير ما قررناه .




الخدمات العلمية