الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل . الصحابي : من لقيه ) الصحابي : من لقيه أي لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، من صغير أو كبير ، ذكر أو أنثى أو خنثى ( أو رآه يقظة ) في حال كونه صلى الله عليه وسلم ( حيا ) وفي حال كون الرائي ( مسلما . ولو ارتد ) بعد ذلك ( ثم أسلم ولم يره ) بعد إسلامه ( ومات مسلما ) وهذا هو المختار في تفسير الصحابي ; وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد رضي الله عنه وأصحابه والبخاري وغيرهم . قال بعض الشافعية : وهي طريقة أهل الحديث .

فقولنا " من لقيه " أحسن من قول بعضهم " من رآه " ليعم اللقاء البصير والأعمى ، وقولنا " يقظة " احتراز ممن رآه مناما ، فإنه لا يسمى صحابيا إجماعا . وقولنا " حيا " احتراز ممن رآه بعد موته كأبي ذؤيب الشاعر خالد بن خويلد الهذلي ، لأنه لما أسلم وأخبر بمرض النبي صلى الله عليه وسلم : سافر ليراه ، فوجده ميتا مسجى فحضر الصلاة عليه والدفن . فلم يعد صحابيا . وعده ابن منده في الصحابة ، وقال : مات على الحنيفية . وفي شرح التدريب ، ومن عده من الصحابة فمراده الصحبة الحكمية ، دون الاصطلاحية ، وقولنا " مسلما " ليخرج من رآه واجتمع به قبل النبوة ولم يره بعد ذلك ، كما في زيد بن عمرو بن نفيل . فإنه مات قبل المبعث . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { إنه يبعث أمة وحده } كما رواه النسائي ، وليخرج أيضا من رآه وهو كافر ، ثم أسلم بعد موته ، وقولنا " ولو ارتد " . ثم أسلم ولم يره ومات مسلما " له مفهوم ومنطوق ، فمفهومه : أنه إذا ارتد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد موته وقتل على الردة ، كابن خطل وغيره ، فإنه لا يعد من الصحابة قطعا . فإنه بالردة تبين أنه لم يجتمع به مؤمنا تفريعا على قول الأشعري : إن الكفر والإيمان لا يتبدلان . خلافا للحنفية . والاعتبار فيهما بالخاتمة . ومنطوقه : لو ارتد ثم رجع إلى الإسلام ، كالأشعث بن قيس ، فقد تبين أنه لم يزل مؤمنا . فإن كان قد رآه مؤمنا ثم ارتد ثم رآه ثانيا مؤمنا . فأولى وأوضح أن يكون صحابيا . فإن الصحبة قد صحت بالاجتماع الثاني قطعا . وخرج [ ص: 293 ] من اجتمع به قبل النبوة ثم أسلم بعد المبعث ولم يلقه . فإن الظاهر أنه لا يكون صحابيا بذلك الاجتماع ; لأنه لم يكن حينئذ مؤمنا ، كما روى أبو داود { عن عبد الله بن أبي الحمساء . قال بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فوعدته أن آتيه في مكانه ونسيت ثم ذكرت ذلك بعد ثلاث فجئت . فإذا هو في مكانه . فقال : يا فتى ، لقد شققت علي . أنا في انتظارك منذ ثلاث } ثم لم ينقل أنه اجتمع به بعد المبعث ، ودخل في قولنا " من لقي { من جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مميز فحنكه النبي صلى الله عليه وسلم . كعبد الله بن الحارث بن نوفل ، أو تفل في فيه كمحمود بن الربيع ، بل مجه بالماء } كما في البخاري ، { وهو ابن خمس سنين أو أربع } . { أو مسح وجهه } ، كعبد الله بن ثعلبة بن صعير - بالصاد وفتح العين المهملتين - ونحو ذلك . فهؤلاء صحابة ، وإن اختار جماعة خلاف ذلك كما هو ظاهر كلام ابن معين وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم وأبي داود وابن عبد البر ، وكأنهم نفوا الصحبة المؤكدة ( قال في الأصل ) أي قال صاحب التحرير في التحرير ( ولو جنيا في الأظهر ) أي ولو كان من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مسلما جنيا في الأظهر من قولي العلماء ليدخل الجن الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم من نصيبين وأسلموا ، وهم تسعة أو سبعة من اليهود بدليل قوله تعالى { إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } وذكر في أسمائهم : شاص ، وماص ، وناشى ، ومنشى ، والأحقب ، وزوبعة ، وسرق ، وعمر ، وجابر . وقد استشكل ابن الأثير في كتابه " أسد الغابة " قول من ذكرهم من الصحابة . فإن بعضهم لم يذكرهم في الصحابة ، وبعضهم ذكرهم قال في شرح التحرير قلت : الأولى أنهم من الصحابة . فإنهم لقوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وأسلموا ، وذهبوا إلى قومهم منذرين ( والصحابة عدول ) قال الشيخ تقي الدين وغيره : الذي عليه سلف الأمة وجمهور الخلف : أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عدول بتعديل الله تعالى لهم . وقال ابن الصلاح وغيره : الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ، ولا يعتد بخلاف من خالفهم ا هـ . [ ص: 294 ] وحكاه ابن عبد البر في مقدمة الاستيعاب إجماع أهل السنة والجماعة ، وحكى فيه إمام الحرمين الإجماع ، وتعديل الله تعالى لهم بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } وقوله تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين } وقوله تعالى { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } وقوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } وقوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } وهذا وإن ورد على سبب خاص ، فالعبرة بعموم اللفظ ، ولا يضرنا كون الخطاب بذلك للصحابة ; لأن المعنى : لا يسب غير أصحابي أصحابي " ولا يسب أصحابي بعضهم بعضا ، وقال صلى الله عليه وسلم { خير القرون قرني } متفق عليهما ، وقد تواتر امتثالهم الأوامر والنواهي ، فإن قيل : هذه الأدلة دلت على فضلهم ، فأين التصريح بعدالتهم ؟ فالجواب : أن من أثنى الله سبحانه وتعالى عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلا ؟ فإذا كان التعديل يثبت بقول اثنين من الناس . فكيف لا تثبت العدالة بهذا الثناء العظيم من الله سبحانه وتعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ ( والمراد من لم يعرف بقدح ) قال ابن مفلح في أصوله : ومرادهم من جهل حاله . فلم يعرف بقدح . قال الماوردي : والحكم بالعدالة إنما هو لمن اشتهرت عدالته . نقله البرماوي قال في شرح التحرير : والظاهر أن هنا في النسخة غلطا . انتهى . وقيل : هم عدول إلى زمن الفتنة بقتل عثمان رضي الله عنه . وبعده كغيرهم . وقالت المعتزلة : إلا من قاتل عليا لخروجه على الإمام بغير حق . وقيل : هم كغيرهم مطلقا . قال ابن قاضي الجبل : وهذه الأقوال باطلة بعضها منسوب إلى عمرو بن عبيد وأضرابه ، وما وقع بينهم محمول على الاجتهاد ، ولا قدح على مجتهد عند المصوبة وغيرهم . [ ص: 295 ] انتهى . وليس المراد بكونهم عدولا : العصمة واستحالة المعصية عليهم ، إنما المراد أن لا نتكلف البحث عن عدالتهم ، ولا طلب التزكية فيهم . فلو قال ثقة : حدثني رجل من الصحابة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا : كان ذلك كتعيينه باسمه لاستواء الكل في العدالة . فائدة : قال الحافظ المزي : من الفوائد أنه لم يوجد قط رواية عمن لمز بالنفاق ، يعني ممن يعد من الصحابة ( وتابعي مع صحابي . كهو ) أي كالصحابي ( معه ) أي مع النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن الصلاح والنووي وغيرهما في التابعي مع الصحابي : الخلاف في الصحابة قياسا عليهم . واشترط الخطيب البغدادي وجماعة في التابعي الصحبة ، فلا يكتفى بمجرد الرؤية ولا اللقاء ، بخلاف الصحابة . فإن لهم مزية على سائر الناس وشرفا برؤيته صلى الله عليه وسلم . واشترط ابن حبان في التابعي : كونه في سن يحفظ عنه ، بخلاف الصحابي . فإن الصحابة قد اختصوا بشيء لم يوجد في غيرهم ( ولا يعتبر علم بثبوت الصحبة ) في حق من لم تعلم صحبته بتواتر أو اشتهار عند الأئمة الأربعة ، خلافا لبعض الحنفية ( فلو قال معاصر عدل : أنا صحابي قبل ) عند أصحابنا والجمهور : لأنه ثقة مقبول القول . فقبل في ذلك كروايته . وقيل : لا يقبل . وإليه ميل الطوفي في مختصره ، وهو ظاهر كلام ابن القطان المحدث . وبه قال أبو عبد الله الصيمري من الحنفية ( لا ) إن قال ( تابعي عدل : فلان صحابي ) فإنه لا يقبل في الأصح ، لكونهم خصوا ذلك بالصحابي على ما في الصحابي من الخلاف . قال بعض شراح اللمع : لا أعرف فيه نقلا . والذي يقتضيه القياس : أنه لا يقبل ; لأن ذلك مرسل ; لأنها قضية لم يحضرها ( و ) إن قال العدل ( أنا تابعي . قال في الأصل ) الذي هو التحرير ( فالظاهر كصحابي ) يعني أن العدل المعاصر لبعض الصحابة ، لو قال : أنا تابعي لكوني لقيت بعض الصحابة ، فإنه يقبل قوله . كما لو قال المعاصر للنبي صلى الله عليه وسلم أنا صحابي ، لأنه ثقة مقبول القول . فقبل قوله كروايته .

التالي السابق


الخدمات العلمية