الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : حلف : لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه ، ففي المسألة نظران ، أحدهما : في حقيقة المفارقة ، والقول فيها على ما سبق في افتراق المتبايعين عن المجلس ، والرجوع إلى العادة . فإن فارق الحالف قبل الاستيفاء مختارا ، حنث ، وإن كان ناسيا أو مكرها ، فعلى القولين في الناسي والمكره . ولو فارقه الغريم وفر منه ، فقيل قولان كالمكره ، والمذهب القطع بأنه لا يحنث سواء تمكن من التعلق به ومنعه أو من متابعته أم لا ، بل لو كانت مفارقته بإذن الحالف ، لم يحنث ، لأنه حلف على فعل نفسه ، فلا يحنث بفعل الغريم . وقال ابن كج : يحنث إن أذن له . وقال الصيدلاني : يحنث إن أمكنه منعه فلم يفعل . وقال القاضي حسين : يحنث إن أمكنه متابعته ، لأنه بالمقام مفارق ، والصحيح الأول : ولو كانا يتماشيان ، فمشى الغريم ، ووقف الحالف ، فذكر الغزالي أنه لا يحنث ، لأن الفارقة حصلت بحركة الغريم ، لا بسكون الحالف ، والصحيح الذي أجاب به القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي أنه إذا مضى أحدهما في مشيه ووقف الآخر ، حنث الحالف ، لأنه إن وقف الغريم ، فقد فارقه الحالف بمشيه ، وإن وقف الحالف فقد فارقه بالوقوف لأن الحادث هو الوقوف ، فنسب المفارقة إليه بخلاف ما إذا كانا ساكنين ، فابتدأ الغريم بالمشي ، لأن الحادث هناك المشي ، وحيث قلنا : لا حنث بمفارقة الغريم . فلو فارق الحالف مكانه بعد ذلك ، لم يحنث . أما إذا قال : لا تفارقني حتى أستوفي منك حقي أو حتى توفيني حقي ، فاليمين منعقدة على فعل الغريم . فإن فارقه الغريم مختارا ، حنث الحالف ، سواء كانت مفارقته بإذنه أم دون إذنه . وقيل : إن فر منه ، ففي حنثه القولان في [ ص: 75 ] المكره ، والمذهب الأول ، لأن اليمين على فعله ، وهو مختار في الفرار . فإن فارقه ناسيا أو مكرها ، خرج الحنث على القولين . ونقل البغوي طريقا قاطعا بالحنث ، وأن الاختيار إنما يعتبر في فعل الحالف ، والمذهب الأول . ولو فر الحالف من الغريم ، لم يحنث ، ويجيء وجه أنه إن أمكن الغريم متابعته فلم يفعل ، حنث . ولو قال : لا افترقت أنا وأنت حتى أستوفي ، أو لا تفترق لا أنا ولا أنت حتى أستوفي فاليمين على فعل كل منهما ، فأيهما فارق الآخر مختارا ، حنث الحالف . فإن فارق ناسيا أو مكرها ، ففيه الخلاف . ولو قال : لا افترقنا حتى أستوفي ، أو لا نفترق ، فوجهان : أحدهما : لا يحنث حتى يفارق كل واحد منهما الآخر . وأصحهما : يحنث بمفارقة أحدهما الآخر ، لأنه يقال : افترقا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        النظر الثاني في استيفاء الحق ، فإذا قال : لا أفارقك حتى أستوفي حقي منك ، ثم أبرأه وفارقه ، حنث ، لأنه فوت البر باختياره ، وهل يحكم بالحنث بنفس الإبراء ، أم بعد المفارقة ؟ يجيء فيه الخلاف السابق في نظائره . ولو أفلس الغريم ، فمنعه الحاكم من ملازمته ففارقه ، ففيه قولا حنث المكره . وإن فارقه باختياره ، حنث . وإن كان تركه واجبا كما لو قال : لا أصلي الفرض ، حنث . ولو أحاله الغريم على رجل ، أو أحال هو على الغريم غريما له عليه دين ، ثم فارقه ، فطريقان : أحدهما : البناء على أن الحوالة استيفاء أم اعتياض ؟ إن قلنا : استيفاء ، لم يحنث ، والمذهب القطع بالحنث بكل حال ، لأنه ليس استيفاء حقيقة وحيث جعلناها استيفاء ، فمعناه أنها كالاستيفاء في [ ص: 76 ] الحكم ، لكن لو نوى أنه لا يفارقه وعليه حق ، لم يحنث . ولو أخذ عوضا عن حقه ، وفارقه ، حنث إلا أن ينوي ما ذكرنا ، وسواء كانت قيمة العوض مثل حقه ، أو أقل أو أكثر ، لأنه لم يستوف حقه ، وإنما استوفى بدله . وإن استوفى حقه من وكيل الغريم ، أو من أجنبي تبرع به ، وفارقه ، حنث إن كان قال : حتى أستوفي حقي منك ، ولا يحنث إن اقتصر على قوله : حتى أستوفي حقي . ولو استوفى ثم فارقه ، ثم وجد ما استوفاه ناقصا ، لم يحنث إن كان من جنس حقه ، فإن لم يكن من جنسه ، بأن كان حقه الدراهم ، فخرج المأخوذ نحاسا أو مغشوشا ، فإن كان عالما بالحال ، حنث ، وإلا ، فعلى قولي الناسي والجاهل .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        حلف الغريم : ليقضين حقه قبل أن يفارقه ، أو لا يفارقه حتى يقضي حقه ، فالقول في مفارقته مختارا أو مكرها وفي الحوالة والمصالحة وغيرها على قياس ما سبق . ولو حلف : لا يعطيه حقه ، فأعطاه مكرها أو ناسيا ، فهو على الخلاف . ولو قال : لا يأخذ ولا يستوفي ، فأخذ ، حنث ، سواء كان المعطي مكرها أو مختارا . فلو كان الأخذ مكرها ، ففيه الخلاف .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية