الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ السن الذي يستحب فيه التصدر لرواية الحديث ] :

( ثم ) بعد تحريك في تصحيح النية واستحضارك ما تقدم من عدم التقيد في الطلب بسن مخصوص ، وإنما المعتبر الفهم ، فلا تقيد في الأداء أيضا بسن ، بل ( حيث احتيج لك في شيء ) وذلك يختلف بحسب الزمان والمكان ، فلعلك تكون في بلاد مشهورة كثيرة العلماء لا يحتاج الناس فيها إلى ما عندك ، ولو كنت في بلاد مهجورة احتيج إليك فيه ; فحينئذ ( اروه ) وجوبا حسبما صرح به الخطيب في ( جامعه ) فقال : [ ص: 228 ] فإن احتيج إليه في رواية الحديث قبل أن يعلو سنه وجب عليه أن يحدث ولا يمتنع ; لأن نشر العلم عند الحاجة إليه لازم ، والممتنع من ذلك عاص آثم . وساق حديث : ( من سئل عن علم نافع فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار ) .

وحديث : ( مثل الذي يتعلم علما ثم لا يحدث به ) . وقد مضى قريبا ، وقول سعيد بن جبير : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل . قال : هذا في العلم ، ليس للدنيا منه شيء .

وقول ابن المبارك : من بخل بالعلم ابتلي بإحدى ثلاث ; إما أن يموت فيذهب علمه ، أو ينساه ، أو يتبع سلطانا . وقول ربيعة : لا ينبغي لأحد يعلم أن عنده شيئا من العلم أن يضيع نفسه . وعن علي بن حرب قال : إنما حمل حسين بن علي الجعفي على التحديث أنه رأى في النوم كأنه في روضة خضراء وفيها كراسي موضوعة ، على كرسي منها زائدة ، وعلى آخر فضيل ، وذكر رجالا ، وكرسي منها ليس عليه أحد قال : فأهويت نحوه فمنعت ، فقلت : هؤلاء أصحابي أجلس إليهم . فقيل لي : إن هؤلاء بذلوا ما استودعوا ، وإنك منعته . فأصبح يحدث .

ولكن قال ابن الصلاح : إن الذي نقوله : إنه متى احتيج إلى ما عنده استحب له التصدي لروايته ونشره في أي سن كان . فإما أن يكون يخالف الخطيب في الوجوب ، أو يكون الاستحباب في التصدي [ ص: 229 ] بخصوصه . على أن الولي ابن المصنف قال : والذي أقوله : إنه إن لم يكن ذلك الحديث في ذلك البلد إلا عنده ، واحتيج إليه ، وجب عليه التحديث به ، وإن كان هناك غيره فهو فرض كفاية .

[ قول الرامهرمزي في تحديد السن والرد عليه ] :

( و ) على كل حال فأبو محمد ( ابن خلاد ) الرامهرمزي قد ( سلك ) في كتابه ( المحدث الفاصل ) التحديد ، حيث صرح ( بأنه يحسن ) أن يحدث ( للخمسينا عاما ) أي بعد استكمالها . وقال : إنه الذي يصح عنده من طريق الأثر والنظر ; لأنها انتهاء الكهولة ، وفيها مجتمع الأشد ، قال سحيم بن وثيل الرياحي :


أخو خمسين مجتمع أشدي ونجذني مداورة الشئون

يعني : أحنكتني معالجة الأمور . قال : ( ولا بأس ) به ( لأربعينا ) عاما ، أي بعدها ، فليس ذلك بمستنكر ; لأنها حد الاستواء ، ومنتهى الكمال ، نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين ، وفي الأربعين تتناهى عزيمة الإنسان وقوته ، ويتوفر عقله ويجود رأيه . انتهى .

وقد روينا عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قرأ : ولما بلغ أشده . قال : ثلاث وثلاثون ، واستوى . قال : أربعون سنة . وقيل في الأشد غير ذلك ، ( و ) قد ( رد ) هذا على ابن خلاد حيث لم يعكس صنيعه ، ويجعل الأربعين التي وصفها مما ذكر حدا لما يستحسن ، والخمسين التي يأخذ صاحبها غالبا في الانحطاط [ ص: 230 ] وضعف القوى حدا لما لا يستنكر ، أو يجعل الأربعين التي للجواز أولا ، ثم يردف بالخمسين التي للاستحسان .

والأمر في ذلك سهل ، بل رد عليه مطلق التحديد ، فقال عياض في ( إلماعه ) واستحسانه : هذا لا يقوم له حجة بما قال . قال : وكم من السلف المتقدمين فمن بعدهم من المحدثين من لم ينته إلى هذا السن ولا استوفى في هذا العمر ، ومات قبله .

وقد نشر من العلم والحديث ما لا يحصى ، هذا عمر بن عبد العزيز توفي ولم يكمل الأربعين ، وسعيد بن جبير لم يبلغ الخمسين ، وكذا إبراهيم النخعي ، وهذا مالك قد جلس للناس ابن نيف وعشرين سنة ، وقيل : ابن سبع عشرة . والناس متوافرون ، وشيوخه ربيعة وابن شهاب وابن هرمز ونافع وابن المنكدر وغيرهم أحياء ، وقد سمع منه ابن شهاب حديث الفريعة أخت أبي سعيد الخدري .

ثم قال : وكذلك الشافعي قد أخذ عنه العلم في سن الحداثة ، وانتصب لذلك في آخرين من الأئمة المتقدمين والمتأخرين . انتهى .

وروى الخطيب في ( جامعه ) من طريق بندار قال : كتب عني خمسة قرون ، وسألوني التحديث وأنا ابن ثماني عشرة سنة ، فاستحييت أن أحدثهم بالمدينة ، فأخرجتهم إلى البستان فأطعمتهم الرطب وحدثتهم .

ومن طريق أبي بكر الأعين قال : كتبنا عن البخاري على باب الفريابي وما في وجهه شعرة . فقلت : ابن كم كان ؟ قال : ابن سبع عشرة سنة .

قال الخطيب : وقد حدثت أنا ولي عشرون سنة [ ص: 231 ] حين قدمت من البصرة ، كتب عني شيخنا أبو القاسم الأزهري أشياء أدخلها في تصانيفه ، وسألني فقرأتها عليه ، وذلك في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة ( 412 ه ) .

قلت : ولم يكن حينئذ استوفى عشر سنين من حين طلبه ، فقد روينا عنه أنه قال : أول ما سمعت الحديث ولي إحدى عشرة سنة ; لأني ولدت في جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ( 392 ) ، وأول ما سمعت في المحرم سنة ثلاث وأربعمائة ( 403 ) .

وكذا حدث الحافظ أبو العباس أحمد بن مظفر وسنه ثمان عشرة ، سمع منه الحافظ الذهبي في السنة التي ابتدأ الطلب فيها ، وهي سنة ثلاث وتسعين وستمائة ( 693 ه ) ، وحدث عنه في ( معجمه ) بحديث من ( الأفراد ) للدارقطني ، وقال عقبه : أملاه علي ابن مظفر وهو أمرد .

وحدث أبو الثناء محمود بن خليفة المنبجي وله عشرون سنة ، سمع منه التقي السبكي أحاديث من ( فضائل القرآن ) لأبي عبيد ، وحدث الشيخ المصنف سنة خمس وأربعين وسبعمائة ( 745 ) وله عشرون سنة ، سمع منه الشهاب أبو محمود أحمد بن محمد بن إبراهيم المقدسي ، وكذا سمع منه [ ص: 232 ] بعد ذلك سنة أربع وخمسين شيخه العماد ابن كثير في آخرين كالمحب بن الهائم ، حيث حدث ودرس وقرظ لشيخنا بعض تصانيفه ومات وهو ابن ثماني عشرة سنة ، وذلك من باب رواية الأكابر عن الأصاغر .

وما أحسن قول عبد الله بن المعتز : الجاهل صغير وإن كان شيخا ، والعالم كبير وإن كان حدثا .

[ تأويل كلام الرامهرمزي من ابن الصلاح ] :

( و ) لكن ( الشيخ ) ابن الصلاح قد حمل كلام ابن خلاد على محمل صحيح ، حيث ( بغير البارع ) في العلم ( خصص ) تحديده ، فإنه قال : وما ذكره ابن خلاد غير مستنكر ، وهو محمول على أنه قاله فيمن يتصدى للتحديث ابتداء من نفسه من غير براعة في العلم تعجلت له قبل السن الذي ذكره ، فهذا إنما ينبغي له ذلك بعد استيفاء السن المذكور ، فإنه مظنة للاحتياج إلى ما عنده ، ( لا كمالك والشافعي ) وسائر من ذكرهم عياض ممن حدث قبل ذلك ; لأن الظاهر أن ذلك لبراعة منهم في العلم تقدمت ظهر لهم معها الاحتياج إليهم ، فحدثوا قبل ذلك ، أو لأنهم سئلوا ذلك ، إما بصريح السؤال ، وإما بقرينة الحال . انتهى .

[ ص: 233 ] وعلى هذا يحمل كلام الخطيب أيضا فإنه قال : لا ينبغي أن يتصدى صاحب الحديث للرواية إلا بعد دخوله في السن ، وأما في الحداثة فإن ذلك غير مستحسن . ثم ساق عن عبد الله بن المعتز أنه قال : جهل الشباب معذور ، وعلمه محقور . وعن حماد بن زيد أنه قيل له : إن خالدا يحدث ، فقال : عجل خالد .

التالي السابق


الخدمات العلمية