الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                مسألة : في التنعم

                                                                                                                قال صاحب " البيان " : قال عمر رضي الله : إياك والتنعم وزي العجم ، إنما قال ذلك ; لأن التنعم بالمباح يسأل عنه ، وعن حق الله تعالى فيه ، قال الله تعالى : ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) ، وفي الحديث المشهور : لتسألن عن نعيم يومكم هذا ، ورأى عمر رضي الله عنه جابر بن عبد الله ، فقال له : ما هذا معك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، قرمنا إلى اللحم فاشتريت بدرهم لحما ، فقال عمر رضي الله عنه : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ) .

                                                                                                                قال مالك : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في المدينة منخل ينخل به دقيق ، بل يطحن الشعير ، ثم ينفض فما طار طار وما بقي بقي ، ولكنهم اتسعوا بعد ذلك بالفتوحات ، فكان لكثير منهم أموال عظيمة ، فكانت تركة الزبير بن العوام خمسين ألف ألف ، ومائتي ألف بعد أداء دينه ، وهو مائتا ألف ألف ومائة ألف ، وكانوا في الحالين مشكورين ، صبروا عند القلة ، وجادوا عند الكثرة ، وكتبت لهم أجور الزكاة والنفقات ، وغير ذلك من القربات ، وكان مال عبد الرحمن بن عوف يقطع بالفئوس ، وناب إحدى زوجاته الأربع في نصيبها من الثمن ثمانين ألفا .

                                                                                                                واختلف الناس في الفقر ، والغنى على أربعة أقوال : فقيل : الغنى أفضل ، وقيل : الفقر ، وقيل : الكفاف ، وقيل : بالوقف ، وهذا في حق من يقوم في كل حالة بما يليق بها ، أما من لا يقوم بما يتعين عليه في حالة منها فلا خلاف أن الحالة الأخرى أفضل له ، ففي الحديث : " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ، وإن من [ ص: 332 ] عبادي من لا يصلحه إلا الغنى " . والفقر والغنى ليسا حسنين لذاتهما ، بل بالنسبة لآثارهما في الناس ، قال : والذي أراه تفضيل الغنى على الفقر ، وتفضيل الفقر على الكفاف ، لقوله تعالى ( واسألوا الله من فضله ) ، وقوله تعالى : ( ووجدك عائلا فأغنى ) ، وقوله تعالى : ( وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ) ، وقوله تعالى : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ) ، وقال عليه السلام : " ذهب أهل الدثور بالأجور " . وكان عليه السلام في آخر عمره على أكمل أحواله ، وكان يدخر قوت عياله سنة ، ولم يكن ذلك قبل ذلك ، ونهى عليه السلام عن إضاعة المال ، والآيات والأحاديث كثيرة جدا .

                                                                                                                وكل ما يتصور من الفقير من الصبر والرضا يتصور من الغني في الإيثار ، وليس كل ما يتصور من الغني من القربات يتصور من الفقير ، قال : وإنما قلت : إن الفقر أفضل من الكفاف ; لأن صاحب الكفاف يشكر الله على نعمته عليه في الكفاف ، والفقير يؤجر من وجهين : الصبر والرضا .

                                                                                                                احتجوا لتفضيل الفقر بقوله تعالى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ، وبأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ، وبقوله عليه السلام : " الفقراء أكثر أهل الجنة " . ولأن الفقير أيسر حسابا ، وأقل سؤالا ، لا من أين اكتسبت ، وفيما أنفقت .

                                                                                                                [ ص: 333 ] والجواب عن الأول : أن الأغنياء يساوونهم في الصبر على الإيسار ، ومخالفة الهوى .

                                                                                                                وعن الثاني : لا يلزم من سبقهم للدخول أن تكون درجتهم أعلى ولا مساوية .

                                                                                                                وعن الثالث : أن الفقراء أكثر في الدنيا فهم أكثر في الجنة ، ولا يلزم من ذلك علو الدرجة .

                                                                                                                وعن الرابع : أن السؤال يقع نعيما لقوم وعذابا لقوم ، فالمحسن يجيب بحسناته ، فينعم بذلك ، والمسيء يجيب عن السؤال بفعله ، وتصرفه الدنيء ، فيتعذب بجوابه ، فلا يضر الغني الشاكر السؤال بل ينفعه ، واحتج مفضل الكفاف بقوله عليه السلام : " اللهم ارزق آل محمد الكفاف واجعل قوت آل محمد كفافا " . ودخل عباد على ابن هرمز في بيته فرأى فيه أسرة ثلاثة عليها ثلاث فرش ، ووسائد ، ومجالس معصفرة ، فقال له يا أبا بكر : ما هذا ؟ فقال ابن هرمز : ليس بهذا بأس ، وليس الذي تقول بشيء ، أدركت الناس على هذا ، وقال عمر رضي الله عنه : إذا أوسع الله عليكم ، فأوسعوا على أنفسكم ، فما فضل عند الرجل من المال بعد أداء الواجب فلبس من رفيع الثياب ، وأكل من طيب الطعام ، وركب من جيد المراكب فحسن من غير إسراف ، فإن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده كما في الحديث ، وفي " مسلم " يقول الله تعالى : " يا عبدي ، أنفق أنفق عليك " .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية