الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1079 [ ص: 152 ] الحديث السادس عشر لزيد بن أسلم مسند صحيح

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن وعلة المصري ، عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : إذا دبغ الإهاب ، فقد طهر .

التالي السابق


قد تقدم القول في هذا الإسناد ، وسماع ابن وعلة من ابن عباس صحيح .

روى هذا الحديث عن زيد بن أسلم جماعة منهم ابن عيينة ، وهشام بن سعد ، وسليمان بن بلال .

ورواه عن ابن وعلة جماعة منهم القعقاع بن حكيم ، وأبو الخير اليزني ، وزيد بن أسلم .

ومعلوم أن المقصود بهذا الحديث ما لم يكن طاهرا من الأهب ، كجلود الميتات ، وما لا تعمل فيه الذكاة من [ ص: 153 ] السباع عند من حرمها ; لأن الطاهر لا يحتاج الدباغ للتطهير ، ومستحيل أن يقال في الجلد الطاهر : إنه إذا دبغ فقد طهر ، وهذا يكاد علمه أن يكون ضرورة . وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : أيما إهاب دبغ فقد طهر ، نص ودليل ; فالنص طهارة الإهاب بالدباغ ، والدليل منه أن كل إهاب لم يدبغ ، فليس بطاهر ; وإذا لم يكن طاهرا ، فهو نجس ، والنجس رجس محرم ; فبهذا علمنا أن المقصود بذلك القول جلود الميتة .

‌‌‌‌وإذا كان ذلك كذلك ، كان هذا الحديث معارضا لرواية من روى في هذه الشاة الميتة : إنما حرم أكلها ، ولرواية من روى في الميتة : إنما حرم أكلها ، ولرواية من روى : إنما حرم لحمها ، ومبينا لمراد الله تعالى في قوله عز وجل : حرمت عليكم الميتة ، كما كان قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ، بيانا لقول الله عز وجل : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما .

وبطل بنص هذا الحديث قول من قال : إن الجلد من الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ .

[ ص: 154 ] وبطل بالدليل منه قول من قال : إن جلد الميتة ، وإن لم يدبغ يستمتع به ، وينتفع ، وهو قول روي عن ابن شهاب ، والليث بن سعد ، وهو مشهور عنهما ، على أنه قد روي عنهما خلافه .

والأشهر عنهما ما ذكرنا .

ذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، حديث شاة ميمونة ، وهو : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مر على شاة لميمونة ميتة ، فقال : ألا استمتعتم بإهابها ، قالوا : وكيف يا رسول الله ، وهي ميتة ؟ قال : إنما حرم لحمها .

قال معمر : وكان الزهري ينكر الدباغ ، ويقول : ليستمتع به على كل حال .

قال أبو عبد الله المروزي : وما علمت أحدا قال ذلك قبل الزهري .

وروى الليث ، عن يونس بن يزيد ، قال : سألت ابن شهاب عن جلد الميتة ، فقال : حدثني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد شاة ميتة أعطتها مولاة لميمونة من الصدقة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هلا انتفعتم بجلدها ، قالوا : إنها ميتة ، قال : إنما حرم أكلها .

[ ص: 155 ] قال ابن شهاب : لا نرى منها بالسقاء بأسا ، ولا ببيع جلدها ، وابتياعه ، وعمل الفراء منها .

قال أبو عمر :

هكذا روى هذا الحديث معمر ، ويونس ، ومالك ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، في قصة شاة ميمونة لم يذكروا الدباغ أيضا ، والدباغ موجود في حديث ابن عيينة ، والأوزاعي ، وعقيل ، والزبيدي ، وسليمان بن كثير . وزيادة من حفظ مقبولة ، وذكر الدباغ أيضا موجود في هذه القصة من حديث عطاء عن ابن عباس .

روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة مطروحة من الصدقة ، قال : أفلا أخذوا إهابها فدبغوه ، فانتفعوا به ؟ ! .

وقال ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : أخبرتني ميمونة أن شاة ماتت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا دبغتم [ ص: 156 ] إهابها ؟ فجاء ذكر الدباغ في هذا الحديث ، عن ابن عباس من وجوه صحاح ثابتة .

وكان ابن شهاب يذهب إلى ظاهر الحديث في قوله : إنما حرم أكلها ، وكان الليث بن سعد يقول بقول ابن شهاب في ذلك ذكر الطحاوي ، قال : وقال الليث بن سعد : لا بأس ببيع جلود الميتة قبل الدباغ إذا يبست ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن في الانتفاع بها ، والبيع من الانتفاع .

قال أبو جعفر الطحاوي : ولم نجد عن واحد من الفقهاء جواز بيع جلود الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث .

قال أبو عمر :

يعني من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين ، وأما ابن شهاب ، فذلك عنه صحيح على ما تقدم ذكره ، وهو قول يأباه جمهور العلماء ، وقد ذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك ، وذكره ابن خويز منداد في كتابه ، عن ابن عبد الحكم أيضا ، قال : من اشترى جلد ميتة ، فدبغه ، وقطعه نعالا ، فلا يبعه حتى يبين ، فهذا يدل على أن مذهبه جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ وبعد الدباغ ، قال ابن خويز منداد ، وهو قول الزهري ، والليث بن سعد ، قال : والظاهر من مذهب مالك غير ما حكاه ابن عبد الحكم ، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد [ ص: 157 ] الميتة ، ولكن يبيح الانتفاع بها في الأشياء اليابسة ، ولا يصلى عليه ، ولا يؤكل فيه ، هذا هو الظاهر من مذهب مالك .

وفي المدونة لابن القاسم : من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ ، فأتلفه كان عليه قيمته ، وحكى أن ذلك قول مالك .

وذكر أبو الفرج أن مالكا ، قال : من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ ، فلا شيء عليه .

قال إسماعيل : إلا أن يكون لمجوسي .

قال أبو عمر :

ليس في تقصير من قصر عن ذكر الدباغ في حديث ابن عباس حجة على من ذكره ; لأن من أثبت شيئا هو حجة على من لم يثبته ، والآثار المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإباحة الانتفاع بجلد الميتة ، بشرط الدباغ كثيرة جدا .

منها : ما ذكرنا عن ابن عباس من رواية ابن وعلة ، ومن رواية عطاء .

ومنها : حديث عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت . رواه مالك عن [ ص: 158 ] يزيد بن قسيط ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أمه ، عن عائشة .

وروى إسرائيل ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دباغ جلود الميتة ذكاتها .

ورواه شريك ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن الأسود ، عن عائشة .

ومنها حديث ميمونة من غير حديث ابن عباس روى ابن وهب [ ص: 159 ] قال : أخبرني عمرو بن الحرث ، والليث بن سعد ، عن كثير بن فرقد : أن عبد الله بن مالك بن حذافة ، حدثه عن أمه العالية بنت سبيع ، أن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثتها : أنه مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجال من قريش ، يجرون شاة لهم مثل الحمار ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو اتخذتم إهابها ؟ قالوا : إنها ميتة ; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يطهرها الماء ، والقرظ .

[ ص: 160 ] وحدثنا سعيد بن نصر ، و عبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر ، وأحمد بن زهير ، قال : حدثنا الحسين بن محمد المروزي ، قال : حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن عمار بن عمير ، عن الأسود ، عن عائشة ، قالت : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جلود الميتة ، فقال : دباغها طهورها .

خالف شريك إسرائيل في إسناده .

وروى منصور عن الحسن ، عن جون بن قتادة ، عن سلمة بن المحبق .

ورواه شعبة ، وهشام ، وغيرهما عن قتادة ، عن الحسن ، عن جون بن قتادة ، عن سلمة بن المحبق : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك أتى أهل بيت ، فدعا بماء عند امرأة ، فقالت : ما عندي ماء إلا قربة ميتة ، فقال : أو ليس قد دبغته ؟ [ ص: 161 ] قالت : بلى ، قال : فإن ذكاته دباغه . هذا لفظ حديث هشام .

وفي حديث شعبة : دباغه طهوره .

وفي رواية منصور ، عن الحسن ، قال : ذكاة الأديم دباغه .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن أبيه ، عن ابن عباس عن النبي في جلد الميتة : إن دباغه أذهب خبثه ورجسه ، أو نجسه .

والآثار بهذا أيضا عن الصحابة ، والتابعين ، وعلماء المسلمين كثيرة جدا ، فلا وجه لمن قصر عن ذكر الدباغ ، ولا لمن ذهب إلى ذلك ، ويقال : لمن قال بما روي عن ابن شهاب من إباحة الانتفاع بجلود الميتة قبل الدباغ ، أتقول : إن جلد الشاة لا يموت بموت الشاة ؟ وإنه كاللبن ، أو الصوف ، فإن قال : نعم ، بان جهله ، ولزمه مثل ذلك في اللحم والشحم ، ومعلوم أن الجلد فيه دسم وودك ، وأكله لمن شاء ممكن كإمكان اللحم والشحم . ولا فرق بين الجلد واللحم في قياس ، ولا نظر ، ولا معقول ; لأن الدم جار في [ ص: 162 ] الجلد كما هو جار في اللحم ، وإن قال : إن الجلد يموت بموت الشاة كما يموت اللحم ، قيل له : فالله - عز وجل - قد حرم الميتة ، وتحريمه على الإطلاق ، إلا أن يخص شيئا من ذلك دليل ، وقد خص الجلد بعد الدباغ ، والأصل في الميتة عموم التحريم ، ولم يخص إهابها بشيء يصح ، ويثبت إلا بعد الدباغ ، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ذكاة الأديم طهوره ، وقوله عليه الصلاة والسلام : دباغه أذهب خبثه ونجسه . وفي هذا دليل على أنه قبل الدباغ ، رجس نجس ، غير طاهر . وما كان كذلك لم يجز بيعه ، ولا شراؤه ، والأمر في هذا واضح ، وعليه فقهاء الحجاز ، والعراق ، والشام ، ولا أعلم فيه خلافا إلا ما قد بينا ذكره عن ابن شهاب ، والليث ، ورواية شاذة عن مالك .

وفي هذه المسألة قول ثالث قالت به طائفة من أهل الآثار ، وذهب إليه أحمد بن حنبل ، وهو في الشذوذ قريب من القول الأول ، وذلك أنهم ذهبوا إلى تحريم الجلد ، وتحريم الانتفاع به قبل الدباغ وبعده .

واحتجوا من الأثر بما حدثناه أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر بن داسة ، قال : حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي [ ص: 163 ] ليلى ، عن عبد الله بن عكيم قال : قرئ علينا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأرض جهينة ، وأنا غلام شاب : أن لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : وحدثنا محمد بن إسماعيل مولى بني هاشم ، قال : حدثنا الثقفي ، عن خالد ، عن الحكم بن عتيبة ، أنه انطلق هو وناس معه إلى عبد الله بن عكيم رجل من جهينة ، قال الحكم : فدخلوا وقعدت على الباب ، فخرجوا إلي ، فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى جهينة قبل موته بشهر : أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب .

[ ص: 164 ] قال أبو عمر :

هكذا قال خالد الحذاء عن الحكم ، قال : انطلقت مع الأشياخ حتى أتينا عبد الله بن عكيم ، وهذا لفظ حديث معتمر بن سليمان ، عن خالد ، والمعنى واحد .

وقال شعبة عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، على ما تقدم ، وكذلك رواه منصور بن المعتمر ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الله بن عكيم .

ورواه القاسم بن مخيمرة ، عن عبد الله بن عكيم ، قال : حدثنا مشيخة لنا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليهم : أن لا ينتفعوا من الميتة بشيء ، وهذا اضطراب كما ترى يوجب التوقف عن العمل بمثل هذا الخبر .

وقال داود بن علي : سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث ، فضعفه ، وقال : ليس بشيء ، إنما يقول : حدثني الأشياخ .

قال أبو عمر :

ولو كان لاحتمل أن يكون مخالفا للأحاديث التي ذكرنا من رواية ابن عباس ، وعائشة ، وسلمة بن المحبق ، وغيرهم عن [ ص: 165 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه أباح الانتفاع بجلود الميتة إذا دبغت ، وقال : دباغها طهورها . لأنه جائز أن يكون معنى حديث ابن عكيم : أن لا ينتفعوا من الميتة بإهاب قبل الدباغ ، وإذا احتمل أن لا يكون مخالفا له ، فليس لنا أن نجعله مخالفا ، وعلينا أن نستعمل الخبرين ما أمكن استعمالهما ، وممكن استعمالهما : بأن نجعل خبر ابن عكيم في النهي عن جلود الميتة قبل الدباغ .

ونستعمل خبر ابن عباس وغيره في الانتفاع بها بعد الدباغ ، فكان قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ، قبل الدباغ ، ثم جاءت رخصة الدباغ .

وحديث عبد الله بن عكيم ، وإن كان قبل موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشهر - كما جاء في الخبر ، فممكن أن تكون قصة ميمونة وسماع ابن عباس منه قوله : أيما إهاب قد دبغ ، فقد طهر - قبل موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجمعة ، أو دون جمعة ، والله أعلم .

وروي من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث ابن عكيم ، وإسناده ليس بالقوي ، وقال بعض من ذهب مذهب ابن حنبل في هذا الباب قد روي عن عمر ، وابن عمر ، وعائشة [ ص: 166 ] كراهية لباس الفراء من غير الذكي ، قال : وذلك دليل على أن الدباغ لا يطهر الجلد ، ولا يذهب بنجاسته ; وذكر ما رواه إسحاق بن راهويه ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن الأشعث ، عن محمد ، قال : كان ممن يكره الصلاة في الجلد إذا لم يكن ذكيا عمر ، وابن عمر ، وعائشة ، وعمران بن حصين ، وأسير بن جابر .

وروى الحكم ، وغيره ، عن زيد بن وهب ، قال : أتانا كتاب عمر بن الخطاب ، ونحن بأذربيجان : أن لا تلبسوا إلا ذكيا . قال : وكانت عائشة تكره الصلاة في جلود الميتة ، وتكره لباس الفراء منها . قال لها محمد بن الأشعث : ألا نهدي لك من الفراء [ ص: 167 ] التي عندنا ؟ فقالت : أخشى أن تكون ميتة ، فقال : ألا نذبح لك من غنمنا ؟ قالت : بلى . واحتج بأن الله عز وجل حرم الميتة تحريما عاما لم يخص منها شيئا بعد شيء ، فكان ذلك واقعا على الجلد واللحم جميعا ، واحتج أيضا ، بقول الله عز وجل لموسى عليه السلام : فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ، وبقول كعب وغيره : كانت نعلا موسى من جلد حمار ميت . هذا كله ما احتج به بعض من ذهب مذهب أحمد بن حنبل ، في هذا الباب ، وقال : إن حديث ابن عباس مختلف فيه ; لأن قوما يقولون : عن ابن عباس ، عن ميمونة ، وقوما يقولون : عن ابن عباس ، عن سودة .

ومرة جعلوها لميمونة .

ومرة يجعلون الشاة لسودة .

ومرة جعلوها لمولاة ميمونة .

ومرة قالوا : عن ابن عباس سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو عمر :

هذا كله ليس باختلاف يضر ; لأن الغرض صحيح ، والمقصد واضح ثابت ، وهو أن الدباغ يطهر إهاب الميتة ، وسواء كانت [ ص: 168 ] الشاة لميمونة ، أو لسودة ، أو لمن شاء الله .

وممكن أن يكون ذلك كله أو بعضه .

وممكن أن يسمع ابن عباس بعد ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما حكاه عنه ابن وعلة : قوله : أيما إهاب دبغ ، فقد طهر ، وذلك ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - . وإذا ثبت ذلك فقد ثبت تخصيص الجلد بشرط الدباغ من جملة تحريم الميتة ; والسنة هي المبينة عن الله مراده من مجملات خطابه .

وأما ما روي عن عمر ، وابن عمر ، وعائشة في كراهية لباس ما لم يكن ذكيا من الفراء ، فيحمل ذلك عندنا على التنزه والاختيار ، والاستحباب ; لأنهم قد روي عنهم خلاف ما تقدم ، وتهذيب الآثار عنهم أن تحمل على ما ذكرنا .

وروى شعبة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبي يحيى الهذلي ، عن أبي وائل ، عن عمر ، قال : دباغ الأديم ذكاته .

[ ص: 169 ] وروى هشام وهمام ، عن قتادة ، عن حسان بن بلال ، عن ابن عمر ، قال : دباغ الأديم ذكاته . وروى جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة : أنه سألها عن الفراء ، فقالت : لعل دباغه طهوره ، وهذا أشبه عن عائشة وأولى ; لأن الأعمش يروي عن إبراهيم وعمارة بن عمير جميعا ، عن الأسود ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : دباغ الأديم ذكاته ، وأكثر أحوال الرواية عن عمر ، وابن عمر ، وعائشة ، أن تحمل على الاختلاف ، فيسقطها ، والحجة فيما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره .

وأما ما ذكروه من نعلي موسى - صلى الله عليه وسلم - فلا حجة فيه ; لأنهما لم يكونا من جلد مدبوغ وإنما كانت الحجة تلزم لو أنهما كانتا من جلد ميتة مدبوغ ، هذا على أن في شريعتنا ومنهاجنا الذي أمرنا باتباعه ، قوله - صلى الله عليه وسلم - : أيما إهاب دبغ ، فقد طهر .

ذكر الأثرم ، قال : سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل يقدم ، وعليه جلود الثعالب ، أو غيرها من جلود الميتة المدبوغة ، فقال : إن كان لبسه ، وهو يتأول : أيما إهاب دبغ فقد طهر ، فلا بأس أن [ ص: 170 ] يصلى خلفه ، قيل له : فتراه أنت جائزا ؟ قال : لا نحن لا نراه جائزا ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ، ولا عصب ، ولكنه إذا كان يتأول ، فلا بأس أن يصلى خلفه ، فقيل له : كيف وهو مخطئ في تأويله ؟ فقال : وإن كان مخطئا في تأويله ، ليس من تأول كمن لا يتأول ، ثم قال : كل من تأول شيئا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن أصحابه ، أو عن أحدهم فيذهب إليه ، فلا بأس أن يصلى خلفه ، وإن قلنا نحن خلافه من وجه آخر ; لأنه قد تأول ، قيل له : فإن من الناس من يقول ليس جلد الثعالب بإهاب ، فنفض يده ، وقال : ما أدري أي شيء هذا القول ؟ ثم قال أبو عبد الله : من تأول فلا بأس أن يصلى خلفه - يعني إذا كان تأويله له وجه في السنة .

قال أبو عمر :

ما أنكره أحمد من قول القائل : إن جلود الثعالب لا يقال للجلد منها إهاب ، هو قول يحكى عن النضر بن شميل ، أنه قال : إنما الإهاب جلد ما يؤكل لحمه من الأنعام ، وأما ما لا يؤكل لحمه ، فإنما هو جلد ومسك .

وقد أنكرت طائفة من أهل العلم قول النضر بن شميل هذا ، وزعمت أن العرب تسمي كل جلد إهابا ، واحتجت بقول عنترة :


فشككت بالرمح الطويل إهابه ليس الكريم على القنا بمحرم

[ ص: 171 ] واختلف الفقهاء أيضا بعد ما ذكرنا في حكم طهارة الجلد المذكور بعد الدباغ ، هل هي طهارة كاملة في كل شيء كالمذكى ؟ أو هي طهارة ضرورة تبيح الانتفاع به في شيء دون شيء ؟ فذكر أبو عبد الله محمد بن نصر ، قال : وإلى جواز الانتفاع بجلود الميتة بعد الدباغ في كل شيء من البيع ، وغيره ، وكراهية الانتفاع بها قبل الدباغ ذهب أكثر أهل العلم من التابعين ، وهو قول يحيى بن سعيد الأنصاري ، وعامة علماء الحجاز .

وقال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، عن حيوة بن شريح ، عن خالد بن أبي عمران ، أنه قال : سألت القاسم ، وسالما ، عن جلود الميتة إذا دبغت ، أيحل ما يجعل فيها ؟ قالا : نعم ، ويحل ثمنها إذا بينت مما كانت .

قال : وحدثنا إبراهيم بن الحسن العلاف ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، قال : لا يختلف عندنا بالمدينة أن دباغ جلود الميتة طهورها ، قال : وقد روي عن الزهري مثل ذلك .

حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا الوليد بن الوليد بن زيد العبسي ، مولى لهم دمشقي ، قال : سألت الأوزاعي عن جلود الميتة ؟ فقال : حدثني الزهري أن دباغها طهورها .

[ ص: 172 ] قال أبو عبد الله : وكذلك قال الأوزاعي ، والليث بن سعد ، وهو قول سفيان الثوري ، وأهل الكوفة . وكذلك قال الشافعي وأصحابه ، وابن المبارك ، وإسحاق بن إبراهيم ، وهو قول مالك بن أنس ; إلا أن مالكا من بين هؤلاء كان يرخص في الانتفاع بها بعد الدباغ ، ولا يرى الصلاة فيها ، ويكره بيعها وشراءها .

قال أبو عبد الله : وسائر من ذكرنا جعلها طاهرة بعد الدباغ ، وأطلق الانتفاع بها في كل شيء ، وهو القول الذي نختاره ، ونذهب إليه .

قال أبو عمر :

قوله أطلق الانتفاع بها في كل شيء - يعني الوضوء فيها ، والصلاة فيها ، وبيعها ، وشراءها ، وسائر وجوه الانتفاع بها ، وبثمنها ( كالجلود ) المذكاة سواء . ( وعلى هذا أكثر أهل العلم بالحجاز والعراق من أهل الفقه والحديث ، وممن قال بهذا : الثوري ، والأوزاعي ، و عبد الله بن الحسن العنبري ، والحسن بن حي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، وهو قول داود بن علي ، والطبري ، وإليه ذهب ابن وهب صاحب مالك ، كل هؤلاء يقولون : دباغ الإهاب طهوره للصلاة ، والوضوء ، والبيع ، وكل شيء .

[ ص: 173 ] وذكر ابن وهب في موطئه ، عن ابن لهيعة ، وحيوة بن شريح جميعا ، عن خالد بن أبي عمران ، قال : سألت القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، عن جلود الميتة إذا دبغت آكل ما جعل فيها ؟ قالا : نعم ، ويحل ثمنها ، إذا بينت مما كانت .

قال ابن وهب : وأخبرنا محمد بن عمرو ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : الفرو من جلود الميتة يصلي فيها ؟ قال : نعم ، وما بأسه ، وقد دبغ ؟ ! .

قال ابن وهب : وسمعت الليث بن سعد يقول : لا بأس بالصلاة في جلود الميتة إذا دبغت ، ( ولا بأس بالنعال من الميتة إذا دبغت ) ، ولا بأس بالاستقاء بها ، والشرب منها ، والوضوء فيها .

قال أبو عمر :

فهذه الرواية عن الليث بذكر شرط الدباغ ، أولى مما تقدم عنه .

قال ابن وهب : وقال يحيى بن سعيد : لقد بلغني أن بعض الناس يرى بيعها ، وإن لم تدبغ ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن ينتفع بها .

[ ص: 174 ] قال أبو عمر :

هذا القول مأخوذ - والله أعلم - عن ابن شهاب ، وقد مضى القول فيه بما فيه كفاية ، والحمد لله .

ومن حجة من ذهب إلى أن الطهارة بالدباغ في جلود الميتة طهارة كاملة في الأشياء الرطبة واليابسة ، وأجاز الشرب منها ، والاستقاء بها ، والصلاة عليها ، وسائر ما يجوز في الجلود المذكاة ; ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، قال : حدثنا جعفر بن ربيعة : أن أبا الخير حدثه ، قال : حدثني ابن وعلة السبئي ، قال : سألت عبد الله بن عباس ، فقلت : إنا نكون بالمغرب ، فيأتينا المجوس بالأسقية فيها الماء والودك ؟ فقال : اشرب ، فقلت : رأي تراه ؟ فقال ابن عباس : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : دباغها طهورها .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن الجهم ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن محمد بن إسحاق ، عن القعقاع بن حكيم ، عن عبد الرحمن بن وعلة ، قال : سألت ابن عباس عن جلود الميتة ، فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دباغها طهورها .

حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا مطلب بن شعيب ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث ، قال : حدثني هشام [ ص: 175 ] حدثني زيد بن أسلم ، عن ابن وعلة السبئي ، قال : سألت عبد الله بن عباس عن أسقية نجدها بالمغرب في مغازينا ، فيها السمن والزيت ، لعلها تكون ميتة ، أفنأكل منها ؟ قال : لا أدري ، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أيما إهاب دبغ فقد طهر .

فهذه الآثار كلها عن ابن عباس تدل على أنه فهم من الخبر معنى عموم الانتفاع به ، وحمل الحديث على ظاهره وعمومه ، وإنما سئل عن الشرب فيها ، ونحو ذلك ، فأطلق الطهارة عليها إطلاقا غير مقيد بشيء ، ولم تختلف فتوى ابن عباس وغيره : إن دباغ الأديم طهوره .

وكذلك لم يختلف قول ابن مسعود وأصحابه في ذلك .

وكان مالك وأصحابه حاشا ابن وهب يرون أن ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت في الجلوس عليها ، والعمل والامتهان في الأشياء اليابسة كالغربلة ، وشبهها ، ولا تباع ، ولا يتوضأ فيها ، ولا يصلى عليها ; لأن طهارتها ليست بطهارة كاملة ، ومن حجتهم : أن الله عز وجل حرم الميتة ، فثبت تحريمها بالكتاب ، وأباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستمتاع بجلدها ، والانتفاع به بعد الدباغ .

[ ص: 176 ] وروى مالك عن يزيد بن قسيط ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أمه ، عن عائشة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت . وفهمت عائشة المراد من ذلك ، فكانت تكره لباس الفراء من الجلود التي ليست مذكاة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة ، قال : حدثنا مطرف ، قال : حدثنا مالك ، عن نافع ، عن القاسم بن محمد ، أنه قال لعائشة : ألا نجعل لك فروا تلبسينه ، قالت : إني لأكره جلود الميتة ، قال : إنا لا نجعله إلا ذكيا ، فجعلناه ، فكانت تلبسه .

وروى مجاهد ، ونافع ، عن ابن عمر : أنه كان لا يلبس إلا ذكيا .

وقد تقدم عن عمر ، وغيره من الصحابة مثل ذلك .

وفي نعلي موسى عليه السلام ما يحتج به هاهنا .

فهذا ( ما ) في طهارة جلود الميتة عند العلماء قديما وحديثا ، والحمد لله .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : أيما إهاب دبغ ; فإنه يقتضي عمومه جميع الأهب ، وهي الجلود كلها ; لأن اللفظ جاء في ذلك مجيء عموم لم يخص شيئا منها ، وهذا أيضا موضع اختلاف وتنازع بين العلماء .

فأما مالك وأكثر أصحابه ، فالمشهور من مذهبهم أن جلد الخنزير لا يدخل ( في عموم ) قوله - صلى الله عليه وسلم - : أيما إهاب دبغ فقد طهر ; لأنه محرم العين حيا وميتا ، جلده مثل [ ص: 177 ] لحمه لا يعمل فيه الدباغ ، كما لا تعمل في لحمه الذكاة ; ولهم في هذا الأصل اضطراب .

حدثني أحمد بن سعيد بن بشر ، حدثنا ابن أبي دليم ، حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا الصمادحي عن معن بن عيسى ، قال : سمعت مالكا ، وسئل عن جلد الخنزير إذا دبغ ؟ قال : لا ينتفع به .

حدثني عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن علي ، قال : سمعنا أبا عمرو بن أبي زيد ، يقول : سمعت ابن وضاح ، يقول : حدثنا موسى بن معاوية ، عن معن بن عيسى ، عن مالك أنه قال : لا ينتفع بجلد الخنزير وإن دبغ ; قال : وقال لي سحنون : لا بأس به .

[ ص: 178 ] وأخبرنا سعيد بن سيد ، قال : أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا موسى بن معاوية ، عن معن بن عيسى ، عن مالك أنه سئل عن جلد الخنزير إذا دبغ ، فكرهه .

قال ابن وضاح : وسمعت سحنونا يقول : لا بأس به .

قال أبو عمر :

قول سحنون هذا هو قول محمد بن عبد الحكم ، وقول داود بن علي وأصحابه ، وحجتهم ما حدثناه أحمد بن فتح ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، قال : حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف ، قال : حدثنا زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن وعلة ، أنه قال لابن عباس : إنا قوم نغزو أرض المغرب ، وإنما أسقيتنا جلود الميتة ، فقال ابن عباس : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أيما مسك دبغ فقد طهر ، ( حملوه على العموم في كل جلد ) .

قال أبو عمر :

يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلود المعهود الانتفاع بها .

[ ص: 179 ] وأما جلد الخنزير ، فلم يدخل في هذا المعنى ; لأنه لم يدخل في السؤال ، لأنه غير معهود الانتفاع بجلده إذ لا تعمل الذكاة فيه ، وإنما دخل في هذا العموم - والله أعلم - من الجلود ما لو ذكي لاستغنى عن الدباغ .

ويحتمل أن يكون جلد الخنزير غير داخل في عموم هذا الخبر ; لأنه إنما حرم على عموم المسوك ، كالتي إذا ذكيت استغنت عن الدباغ ) ، وأما جلد الخنزير ، فالذكاة فيه والميتة سواء ; لأنه لا تعمل فيه الذكاة .

وذكر ابن القاسم ، عن مالك أنه خفف ذلك في جلود السباع ، وكره جلود الحمير المذكاة .

ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل : أن الإهاب جلد البقر ، والغنم ، والإبل .

وما عداها فإنما يقال له : جلد لا إهاب .

قال ابن القاسم : أما جلد السبع ، والكلب إذا ذكي فلا بأس ببيعه ، والشرب فيه ، والصلاة به .

[ ص: 180 ] قال أبو عمر :

الذكاة عند مالك ، وابن القاسم ، عاملة في السباع لجلودها ، وغير عاملة في الحمير والبغال لجلودها . والنهي عند جمهور أهل العلم في أكل كل ذي ناب أقوى من النهي عن أكل لحوم الحمر ; لأن قوما قالوا : إن النهي عن الحمر ، إنما كان لقلة الظهر .

وقال آخرون : إنما نهى منها عن الجلالة ، ولم يعتل بمثل هذه العلل في السباع ، وقال عبد الملك بن حبيب لا يحل بيع جلود السباع ، ولا الصلاة فيها - وإن دبغت - إذا لم تذك ; قال : ولو ذكيت لجلودها ، لحل بيعها ، والصلاة فيها .

قال أبو عمر :

جعل التذكية في السباع لجلودها أكمل طهارة من دباغها ، وهذا على ما ذكرنا من أصولهم في أن الذكاة عاملة في السباع لجلودها ، وأن طهارة الدباغ ليست عندهم طهارة كاملة ، ولكنها مبيحة للانتفاع ; فيما ذكروه ( على ما تقدم ذكره ) في هذا الباب ، وهذا هو المشهور من مذهب مالك وأصحابه .

وأما أشهب ، فقال : جلد الميتة ( إذا دبغ ) لا أكره الصلاة فيه ، ولا الوضوء منه ، وأكره بيعه ، ورهنه ، فإن بيع ، [ ص: 181 ] أو رهن ، لم أفسخه . قال : وكذلك جلود السباع إذا ذكيت ودبغت ، وهي عندي أخف لموضع الذكاة مع الدباغ ، فإن لم تذك جلود السباع ، فهي كسائر جلود الميتة إذا دبغت .

قال أشهب : وأما جلود السباع إذا ذكيت ولم تدبغ ، فلا يجوز بيعها ، ولا ارتهانها ، ولا الانتفاع بشيء منها في حال ، ويفسخ البيع فيها ، والرهن ، ويؤدب فاعل ذلك إلا أن يعذر بجهالة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم كل ذي ناب ( من السباع ) ، فليست الذكاة فيها ذكاة ، كما أنها ليست في الخنزير ذكاة .

قال أبو عمر :

قول أشهب هذا ، هو قول أكثر الفقهاء ، وأهل الحديث .

وقال الشافعي : جلود الميتة كلها تطهر بالدباغ ، وكذلك جلد ما لا يؤكل لحمه إذا دبغ ، إلا الكلب ، والخنزير ، فإن الذكاة والدباغ لا يعملان في جلودهما شيئا .

قال أبو عمر :

ولا تعمل الذكاة عند الشافعي في جلد ما لا يؤكل لحمه ، وقد تقدم في باب إسماعيل بن أبي حكيم اختلاف العلماء فيما يؤكل لحمه ، وما لا يؤكل من السباع .

وحكى عن أبي حنيفة أن الذكاة عنده عاملة في السباع والحمر لجلودها ، ولا تعمل الذكاة عنده في جلد الخنزير شيئا ، ولا عند أحد من أصحابه .

[ ص: 182 ] وكره الثوري جلود الثعالب ، والهر ، وسائر السباع ، ولم ير بأسا بجلود الحمير .

قال أبو عمر :

هذا في الذكاة دون الدباغ ، وأما الدباغ فهو عنده مطهر لجلود الثعالب ، وغيرها .

وقالت طائفة من أهل العلم : لا يجوز الانتفاع بجلود السباع ، لا قبل الدباغ ، ولا بعده ، مذبوحة كانت أو ميتة . وممن قال هذا القول : الأوزاعي ، وابن المبارك ، وإسحاق ، وأبو ثور ، ويزيد بن هارون . واحتجوا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أباح الانتفاع بجلد الميتة المدبوغ إذا كان مما يؤكل ( لحمه ) ; لأن الخطاب الوارد في ذلك إنما خرج على شاة ماتت لبعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فدخل في ذلك كل ما يؤكل لحمه ، وما لم يؤكل لحمه فداخل في عموم تحريم الميتة ; واستدلوا بقول أكثر العلماء في المنع من جلد الميتة بعد الدباغ ; لأن الذكاة غير عاملة فيه . قالوا : فكذلك السباع لا تعمل فيها الذكاة لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكلها ، ولا يعمل فيها الدباغ ; لأنها ميتة لم يصح خصوص شيء منها ، وزعموا أن قول من أجاز الانتفاع بجلد الخنزير بعد الدباغ شذوذ لا يعرج عليه .

وحكى إسحاق بن منصور الكوسج ، عن النضر بن شميل ، أنه قال في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أيما إهاب دبغ فقد طهر ، إنما يقال الإهاب لجلود الإبل ، والبقر ، والغنم .

[ ص: 183 ] وأما السباع فجلود .

قال الكوسج : وقال لي إسحاق بن راهويه : هو كما قال النضر بن شميل .

وحجة الآخرين قوله ‌‌‌‌‌‌‌ - صلى الله عليه وسلم - : أيما إهاب دبغ فقد طهر ، فعم الأهب كلها ، فكل إهاب داخل تحت هذا الخطاب ، إلا أن يصح إجماع في شيء من ذلك فيخرج من الجملة ، وبالله التوفيق .

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، ويحيى بن عبد الرحمن ، حدثنا أحمد بن سعيد ، قال : حدثنا محمد بن أحمد الزراد ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : سألت سحنونا عن لبس الفراء من القلنيات ، وقلت له : إنه بلغني فيها عنك شيء ، وقلت : إنهم ليس يغسلونها ، إنما يذبحونها ، فيدبغونها بذلك الدم . قال : وما ذلك الدم ؟ قال : أليس يسيرا ؟ قلت : بلى . قال : أو ليس يذهب مع الدباغ ؟ قلت : بلى . قال : لا بأس به ، إذا دبغ الإهاب فقد طهر .

واختلف الفقهاء في الدباغ الذي يطهر به جلود الميتة ما هو ؟ فقال أصحاب مالك - وهو المشهور من مذهبه - : كل شيء دبغ به الجلد من ملح ، أو قرظ ، أو شب ، أو غير ذلك ، فقد جاز الانتفاع به .

[ ص: 184 ] وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه : إن كل شيء دبغ به جلد الميتة ، فأزال شعره ورائحته ، وذهب بدسمه ونشفه ، فقد طهره ، وهو بذلك الدباغ طاهر ، وهو قول داود .

وذكر ابن وهب قال : قال يحيى بن سعيد : ما دبغت به الجلود من دقيق ، أو قرظ ، أو ملح ، فهو لها طهور .

وللشافعي في هذه المسألة قولان : أحدهما هذا ، والآخر : إنه لا يطهره إلا الشب ، أو القرظ ; لأنه الدباغ المعهود على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي خرج عليه الخطاب ( والله الموفق ) .




الخدمات العلمية