الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 363 ] الخامسة : الصحيح أن الجرح والتعديل يثبتان بواحد ، وقيل : لا بد من اثنين .

        وإذا اجتمع فيه جرح وتعديل فالجرح مقدم

        وقيل : إن زاد المعدلون قدم التعديل ، وإذا قال : حدثني الثقة أو نحوه لم يكتف به على الصحيح ، وقيل : يكتفى ، فإن كان القائل عالما كفى في حق موافقه في المذهب عند بعض المحققين .

        وإذا روى العدل عمن سماه لم يكن تعديلا عند الأكثرين ، وهو الصحيح ، وقيل : هو تعديل .

        وعمل العالم وفتياه على وفق حديث رواه ، ليس حكما بصحته ولا مخالفته قدح في صحته ولا في رواته .

        التالي السابق


        ( الخامسة : الصحيح أن الجرح والتعديل يثبتان بواحد ) ; لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر ، فلم يشترط في جرح راويه ، وتعديله ، ولأن التزكية بمنزلة الحكم ، وهو أيضا لا يشترط فيه العدد .

        ( وقيل : لا بد من اثنين ) كما في الشهادة ، وقد تقدم الفرق .

        قال شيخ الإسلام : ولو قيل يفصل بين ما إذا كانت التزكية مسندة من المزكي إلى اجتهاده ، أو إلى النقل عن غيره لكان متجها ; لأنه إذا كان الأول فلا يشترط العدد أصلا لأنه بمنزلة الحكم ، وإن كان الثاني ، فيجري فيه الخلاف ، ويتبين [ ص: 364 ] أيضا أنه لا يشترط العدد ; لأن أصل النقل لا يشترط فيه ، فكذا ما تفرع منه . انتهى .

        وليس لهذا التفصيل الذي ذكره فائدة إلا نفي الخلاف في القسم الأول ، وشمل الواحد العبد والمرأة ، وسيذكره المصنف من زوائده .

        ( وإذا اجتمع فيه ) ، أي الراوي ( جرح ) مفسر ، ( وتعديل ، فالجرح مقدم ) ، ولو زاد عدد المعدل ، هذا هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين ، ونقله الخطيب عن جمهور العلماء ; لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل ; ولأنه مصدق للمعدل فيما أخبر به ، عن ظاهر حاله ، إلا أنه يخبر ، عن أمر باطن خفي عنه .

        وقيد الفقهاء ذلك بما إذا لم يقل المعدل عرفت السبب الذي ذكره الجارح ، ولكنه تاب ، وحسنت حاله ، فإنه حينئذ يقدم المعدل قال البلقيني : ويأتي ذلك أيضا هنا إلا في الكذب ، كما سيأتي .

        وقيده ابن دقيق العيد : بأن يبني على أمر مجزوم به لا بطريق اجتهادي ، كما اصطلح عليه أهل الحديث في الاعتماد في الجرح على اعتبار حديث الراوي لحديث غيره ، والنظر إلى كثرة الموافقة والمخالفة .

        ورد بأن أهل الحديث لم يعتمدوا ذلك في معرفة العدالة والجرح ، بل في معرفة الضبط والتغفل ، واستثنى أيضا ما إذا عين سببا ، فنفاه المعدل بطريق معتبر ، بأن قال : قتل غلاما ظلما يوم كذا ، فقال المعدل : رأيته حيا بعد ذلك ، أو كان القاتل في ذلك الوقت عندي ، فإنهما يتعارضان وتقييد الجرح بكونه [ ص: 365 ] مفسرا جار على ما صححه المصنف ، وغيره ، كما صرح به ابن دقيق العيد وغيره .

        ( وقيل : إن زاد المعدلون ) في العدد على المجرحين ، ( قدم التعديل ) ; لأن كثرتهم تقوي حالهم ، وتوجب العمل بخبرهم ، وقلة المجرحين تضعف خبرهم .

        قال الخطيب : وهذا خطأ وبعد ممن توهمه ; لأن المعدلين ، وإن كثروا لم يخبروا عن عدم ما أخبر به الجارحون ، ولو أخبروا بذلك ، لكانت شهادة باطلة على نفي .

        وقيل : يرجح بالأحفظ ، حكاه البلقيني في " محاسن الاصطلاح " .

        وقيل : يتعارضان ، فلا يترجح أحدهما إلا بمرجح ، حكاه ابن الحاجب ، وغيره ، عن ابن شعبان من المالكية .

        قال العراقي : وكلام الخطيب يقتضي نفي هذا القول ، فإنه قال : اتفق أهل العلم على أن من جرحه الواحد والاثنان وعدله مثل عدد من جرحه ، فإن الجرح به أولى ، ففي هذه الصورة حكاية الإجماع على تقديم الجرح خلاف ما حكاه ابن الحاجب .

        ( وإذا قال حدثني الثقة أو نحوه ) من غير أن يسميه ، ( لم يكتف به ) في التعديل ( على الصحيح ) ، حتى يسميه ; لأنه وإن كان ثقة عنده ، فربما لو سماه لكان ممن جرحه غيره بجرح قادح ، بل إضرابه عن تسميته ريبة توقع ترددا في القلب .

        [ ص: 366 ] بل زاد الخطيب أنه لو صرح بأن كل شيوخه ثقات ، ثم روى عمن لم يسمه ، لم يعمل بتزكيته ، لجواز أن يعرف إذا ذكره بغير العدالة .

        ( وقيل : يكتفى ) بذلك مطلقا ، كما لو عينه ; لأنه مأمون في الحالتين معا ، ( فإن كان القائل عالما ) ، أي مجتهدا ، كمالك والشافعي ، وكثيرا ما يفعلان ذلك ، ( كفى في حق موافقه في المذهب ) ، لا غيره ( عند بعض المحققين ) .

        قال ابن الصباغ : لأنه لا يورد ذلك احتجاجا بالخبر على غيره ، بل يذكر لأصحابه قيام الحجة عنده على الحكم ، وقد عرف هو من روى عنه ذلك .

        واختاره إمام الحرمين ، ورجحه الرافعي في شرح المسند ، وفرضه في صدور ذلك من أهل التعديل .

        وقيل : لا يكفي أيضا ، حتى يقول : كل من أروي لكم عنه ، ولم أسمه ، فهو عدل .

        قال الخطيب : وقد يوجد في بعض من أبهموه الضعف لخفاء حاله ، كرواية مالك ، عن عبد الكريم بن أبي المخارق .

        فائدتان

        الأولى : لو قال نحو الشافعي : أخبرني من لا أتهم ، فهو كقوله : أخبرني الثقة .

        وقال الذهبي : ليس بتوثيق ; لأنه نفي للتهمة ، وليس فيه تعرض لإتقانه ، [ ص: 367 ] ولا لأنه حجة .

        قال ابن السبكي : وهذا صحيح ، غير أن هذا إذا وقع من الشافعي على مسألة دينية فهي والتوثيق سواء في أصل الحجة ، وإن كان مدلول اللفظ لا يزيد على ما ذكره الذهبي ، فمن ثم خالفناه في مثل الشافعي ، أما من ليس مثله فالأمر كما قال ، انتهى .

        قال الزركشي : والعجب من اقتصاره على نقله ، عن الذهبي مع أن طوائف من فحول أصحابنا صرحوا به ، منهم : الصيرفي ، والماوردي ، والروياني .

        الثانية : قال ابن عبد البر : إذا قال مالك : عن الثقة ، عن بكير بن عبد الله الأشج ، فالثقة مخرمة بن بكير .

        وإذا قال : عن الثقة ، عن عمرو بن شعيب ، فهو عبد الله بن وهب ، وقيل : الزهري .

        وقال النسائي : الذي يقول مالك في كتابه : " الثقة ، عن بكير " يشبه أن يكون عمرو بن الحارث .

        وقال غيره : قال ابن وهب : كل ما في كتاب مالك ، أخبرني من لا أتهم من أهل العلم ، فهو الليث بن سعد .

        وقال أبو الحسن الأبري : سمعت بعض أهل الحديث ، يقول : إذا قال الشافعي : أخبرنا الثقة ، عن ابن أبي ذؤيب ، فهو ابن أبي فديك .

        [ ص: 368 ] وإذا قال : أخبرنا الثقة ، عن الليث بن سعد ، فهو يحيى بن حسان .

        وإذا قال : أخبرنا الثقة ، عن الوليد بن كثير ، فهو أبو أسامة .

        وإذا قال : أخبرنا الثقة ، عن الأوزاعي ، فهو عمرو بن أبي سلمة .

        وإذا قال : أخبرني الثقة ، عن ابن جريج ، فهو مسلم بن خالد .

        وإذا قال : أخبرنا الثقة ، عن صالح مولى التوأمة ، فهو إبراهيم بن يحيى ، انتهى .

        ونقله غيره ، عن أبي حاتم الرازي .

        وقال : ابن حجر في رجال الأربعة : إذا قال مالك : عن الثقة ، عن عمرو بن شعيب فقيل : هو عمرو بن الحارث ، أو ابن لهيعة .

        وعن الثقة ، عن بكير بن الأشج قيل : هو مخرمة بن بكير .

        وعن الثقة ، عن ابن عمر ، هو نافع ، كما في موطأ ابن القاسم .

        وإذا قال الشافعي : ، عن الثقة ، عن ليث بن سعد ، قال الربيع : هو يحيى بن حسان .

        وعن الثقة ، عن أسامة بن زيد ، هو إبراهيم بن يحيى .

        وعن الثقة ، عن حميد ، هو ابن علية .

        وعن الثقة ، عن معمر ، هو مطرف بن مازن .

        وعن الثقة ، عن الوليد بن كثير ، هو أبو أسامة .

        وعن الثقة ، عن يحيى بن أبي كثير ، لعله ابنه عبد الله بن يحيى .

        وعن الثقة ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، هو ابن علية .

        وعن الثقة ، عن الزهري ، هو سفيان بن عيينة . انتهى .

        [ ص: 369 ] وروينا في مسند الشافعي ، عن الأصم قال : سمعت الربيع ، يقول : كان الشافعي إذا قال : أخبرني من لا أتهم يريد به إبراهيم بن يحيى ، وإذا قال : أخبرني الثقة ، يريد به يحيى بن حسان .

        وقد روى الشافعي ، قال : أخبرنا الثقة ، عن عبد الله بن الحارث إن لم أكن سمعته من عبد الله بن الحارث ، عن مالك بن أنس ، عن يزيد بن قسيط ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر وعثمان قضيا في الملطاة بنصف دية الموضحة .

        قال الحافظ أبو الفضل الفلكي : الرجل الذي لم يسم الشافعي ، هو أحمد بن حنبل .

        وفي " تاريخ ابن عساكر " قال عبد الله بن أحمد : كل شيء في كتاب الشافعي ، أخبرنا الثقة ، عن أبي .

        وقال شيخ الإسلام : يوجد في كلام الشافعي : أخبرني الثقة ، عن يحيى بن أبي كثير ، والشافعي لم يأخذ عن أحد ممن أدرك يحيى بن أبي كثير ، فيحتمل أنه أراد بسنده ، عن يحيى .

        قال : وذكر عبد الله بن أحمد أن الشافعي إذا قال : أخبرنا الثقة ، وذكر أحدا من العراقيين ، فهو يعني أباه .

        ( وإذا روى العدل عمن سماه ، لم يكن تعديلا عند الأكثرين ) من أهل الحديث وغيرهم ، ( وهو الصحيح ) ، لجواز رواية العدل ، عن غير العدل فلم تتضمن روايته عنه تعديله .

        وقد روينا ، عن الشعبي ، أنه قال : حدثنا الحارث ، وأشهد بالله أنه كان كذابا .

        [ ص: 370 ] ، وروى الحاكم ، وغيره ، عن أحمد بن حنبل ، أنه رأى يحيى بن معين ، وهو يكتب صحيفة معمر ، عن أبان ، عن أنس ، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه ، فقال له أحمد : تكتب صحيفة معمر ، عن أبان ، عن أنس ، وتعلم أنها موضوعة ؟ فلو قال لك قائل : أنت تتكلم في أبان ، ثم تكتب حديثه ، فقال : يا أبا عبد الله أكتب هذه الصحيفة ، فأحفظها كلها ، وأعلم أنها موضوعة ، حتى لا يجيء إنسان فيجعل بدل أبان ثابتا ، ويرويها عن معمر ، عن ثابت ، عن أنس ، فأقول له : كذبت ، إنما هي ، عن معمر ، عن أبان ، لا عن ثابت .

        ( وقيل : هو تعديل ) ، إذ لو علم فيه جرحا ، لذكره ولو لم يذكره لكان غاشا في الدين .

        قال الصيرفي : وهذا خطأ ; لأن الرواية تعريف له ، والعدالة بالخبرة .

        وأجاب الخطيب بأنه قد لا يعرف عدالته ولا جرحه .

        وقيل : إن كان العدل الذي روى عنه ، لا يروي إلا عن عدل ، كانت روايته تعديلا ، وإلا فلا ، واختاره الأصوليون ، كالآمدي ، وابن الحاجب ، وغيرهما .

        ( وعمل العالم وفتياه على وفق حديث رواه ليس حكما ) منه ( بصحته ) ، ولا بتعديل رواته ، لإمكان أن يكون ذلك منه احتياطا ، أو لدليل آخر وافق ذلك الخبر .

        وصحح الآمدي وغيره من الأصوليين أنه حكم بذلك .

        [ ص: 371 ] وقال إمام الحرمين : إن لم يكن في مسالك الاحتياط .

        وفرق ابن تيمية بين أن يعمل به في الترغيب وغيره .

        ( ولا مخالفته ) له ( قدح ) منه ( في صحته ، ولا في رواته ) ، لإمكانه أن يكون ذلك لمانع من معارض أو غيره ، وقد روى مالك حديث الخيار ، ولم يعمل به لعمل أهل المدينة بخلافه ، ولم يكن ذلك قدحا في نافع راويه .

        وقال ابن كثير : في القسم الأول نظر ، إذا لم يكن في الباب غير ذلك الحديث ، وتعرض للاحتجاج به في فتياه أو حكمه ، أو استشهد به عند العمل بمقتضاه .

        قال العراقي : والجواب : وفي هذا النظر نظر ; لأنه لا يلزم من كون ذلك الباب ليس فيه غير هذا الحديث ، أن لا يكون ثم دليل آخر من قياس ، أو إجماع ، ولا يلزم المفتي أو الحاكم أن يذكر جميع أدلته ، بل ولا بعضها ، ولعل له دليلا آخر ، واستأنس بالحديث الوارد في الباب ، وربما كان يرى العمل بالضعيف وتقديمه على القياس كما تقدم .

        تنبيه

        مما لا يدل على صحة الحديث أيضا كما ذكره أهل الأصول موافقة الإجماع له [ ص: 371 ] على الأصح ، لجواز أن يكون المستند غيره ، وقيل : يدل وكذلك بقاء خبر تتوفر الدواعي على إبطاله .

        وقال الزيدية : يدل وافتراق العلماء بين متأول للحديث ، ومحتج به .

        قال ابن السمعاني ، وقوم : يدل ، لتضمنه تلقيهم له بالقبول .

        وأجيب باحتمال أنه تأوله على تقدير صحته وفرضا ، لا على ثبوتها عنده .




        الخدمات العلمية