الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تخريب حصن بيت الأحزان وهو قريب من صفد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم ركب السلطان في جحافله إلى الحصن الذي كانت الفرنج قد بنوه في العام الماضي وحفروا فيه بئرا عينا معينا ، وسلموه إلى الداوية ، فقصده السلطان فحاصره ونقبه من جميع جهاته ، وألقى فيه النيران فجعله دكا وخربه إلى الأساس ، وغنم جميع ما فيه من الحواصل ، فكان فيه مائة ألف قطعة من السلاح ، ومن المأكل شيء كثير ، وأخذ منه سبعمائة أسير ، فقتل بعضا وأرسل إلى دمشق الباقين ، ثم عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا ، غير أنه مات من أمرائه عشرة بسبب ما نالهم من الحر والوباء في مدة الحصار ، وكانت أربعة عشر يوما ، وعاد الناس إلى زيارة مشهد يعقوب على عادتهم ، وقد امتدحه الشعراء فقال بعضهم :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 538 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بجدك أعطاف القنا تتعطف وطرف الأعادي دون مجدك يطرف     شهاب هدى في ظلمة الشرك ثاقب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وسيف إذا ما هزه الله مرهف     وقفت على حصن المخاض وإنه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لموقف حق لا يوازيه موقف     فلم يبد وجه الأرض بل حال دونه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      رجال كآساد الشرى وهي تزحف     وجرداء سلهوب ودرع مضاعف
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأبيض هندي ولدن مثقف     وما رجعت أعلامك الصفر ساعة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إلى أن غدت أكبادها السود ترجف     كبا من أعاليه صليب وبيعة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وشاد به دين حنيف ومصحف     صليبة عباد الصليب ومنزل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      النزال لقد غادرته وهو صفصف     أتسكن أوطان النبيين عصبة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تمين لدى أيمانها وهي تحلف     نصحتكم والنصح في الدين واجب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هلاك الفرنج أتى عاجلا     وقد آن تكسير صلبانها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولو لم يكن قد دنا حتفها     لما عمرت بيت أحزانها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 539 ] ومن كتاب فاضلي إلى بغداد في وصف هذا الحصن الذي خربه صلاح الدين : وقد عرضوا حائطه إلى أن زاد على عشرة أذرع وقطعت له عظام الحجارة ; كل فص منها من سبعة أذرع ، إلى ما فوقها وما دونها ، وعدتها تزيد على عشرين ألف حجر ، لا يستقر الحجر في مكانه ولا يستقل في بنيانه إلا بأربعة دنانير فما فوقها ، وفيما بين الحائطين حشو من الحجارة الضخمة الصم ، المرغم بها أنوف الجبال الشم ، وقد جعلت سقيته بالكلس الذي إذا أحاطت قبضته بالحجر مازجه بمثل جسمه وصاحبه بأوثق وأصلب من جرمه ، وأوعز إلى خصمه من الحديد بأن لا يتعرض لهدمه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها أقطع السلطان صلاح الدين لابن أخيه عز الدين فروخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب مدينة بعلبك . وأغار فيها على صفد وأعمالها ، فقتل طائفة كبيرة من مقاتليها ورجالها ، وكان فروخشاه من الصناديد الأبطال المشهورين المشكورين في النزال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها حج القاضي الفاضل من دمشق وعاد إلى مصر ، فقاسى في الطريق أهوالا ، ولقي برحا وتعبا وكلالا ، وكان في العام الماضي قد حج من مصر وعاد إلى الشام ولكن كان أمره فيه أسهل من هذا العام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها كانت زلزلة عظيمة انهدم بسببها قلاع وقرى ، ومات خلق كثير فيها من الورى ، وسقط من رءوس الجبال صخور كبار ، وصادمت بين الجبال في البراري والقفار ، مع بعد ما بين الجبال من الأقطار . وفيها أصاب الناس غلاء [ ص: 540 ] شديد وفناء شريد وجهد جهيد ، فمات خلق كثير من الخلائق بهذا وهذا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفاة المستضيء بأمر الله وشيء من ترجمته

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان ابتداء مرضه في أواخر شوال من هذه السنة فأرادت زوجته أن تكتم ذلك فلم يمكنها ، ووقعت فتنة كبيرة ببغداد ونهبت العوام دورا كثيرة ، وأموالا جزيلة ، فلما كان يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال خطب لولي العهد أبي العباس أحمد بن المستضيء ، وهو الخليفة الناصر لدين الله ، وكان يوما مشهودا نثر الذهب فيه على الخطباء والمؤذنين ومن حضر ذلك ، عند ذكره على المنبر والتنويه باسمه في العشر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلما كان يوم السبت سلخ شوال مات الخليفة المستضيء بأمر الله ، وكان مرضه بالحمى ابتدأ بها في يوم عيد الفطر ، ولم يزل الأمر يتزايد به حتى استكمل في مرضه شهرا ، فمات ، رحمه الله سلخ شوال ، وله من العمر تسع وثلاثون سنة ، وكانت مدة خلافته تسع سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوما ، وغسل وصلي عليه من الغد . ودفن بدار النصر التي بناها ، وذلك عن وصيته التي [ ص: 541 ] أوصاها ، وترك من بعده ولدين ; أحدهما ولي عهده وهو عدة الدين والدنيا أبو العباس أحمد الناصر لدين الله ، والآخر أبو منصور هاشم ، وقد وزر له جماعة من الرؤساء ، وكان من خيار الخلفاء ، أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر ، وضع عن الناس المكوسات والضرائب ، ودرأ عنهم البدع والمصائب ، وكان حليما وقورا كريما ، فرحمه الله تعالى وبل ثراه وجعل الجنة مأواه . وبويع بالخلافة من بعده لولده الناصر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية