الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي

السخاوي - شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي

صفحة جزء
[ الدلالة على الأحق وترك التحديث عنده ] :

( وأن من سيل ) بكسر المهملة وتخفيف الهمزة للضرورة ، أن يحدث ( بجزء ) أو كتاب أو نحوهما ، ( قد عرف [ ص: 237 ] رجحان راو ) من أهل عصره ببلده أو غيرها ، ( فيه ) إما لكونه أعلى أو متصل السماع بالنسبة إليه ، أو غيرهما من الترجيحات ، ولو بالعلم والضبط ، فضلا عن أن يكون شيخه فيه حيا ، ( دل ) السائل له عليه ، وأرشده إليه ليأخذه عنه ، أو يستدعي منه الإجازة إن كان في غير بلده ، ولم تمكنه الرحلة إليه .

( فهو ) أي التنبيه بالدلالة على ذلك ( حق ) ونصيحة في العلم ، لكون الراجح به أحق ، وقد فعله غير واحد من الصحابة والأئمة .

قال شريح بن هانئ : سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح ، يعني على الخفين ، فقالت : ائت عليا ، فإنه أعلم بذلك مني .

وقال ابن شهاب : جلست إلى ثعلبة بن أبي صعير فقال لي : أراك تحب العلم ؟ قلت : نعم . قال : فعليك بذاك الشيخ ، يعني سعيد بن المسيب . قال : فلزمت سعيدا سبع سنين ، ثم تحولت من عنده إلى عروة فتفجرت منه بحرا .

وقال حمدان بن علي الوراق : ذهبنا إلى أحمد فسألناه أن يحدثنا ، فقال : تسمعون مني ومثل أبي عاصم في الحياة . أخرجهما الخطيب ، ونحوه ما عنده في ( الرحلة ) له عن الفضل بن زياد قال : سمعت أحمد وقال له رجل : عمن ترى أن يكتب الحديث ؟ فقال له : اخرج إلى أحمد بن يونس فإنه شيخ الإسلام . في آخرين من السلف والخلف منهم عمرو بن دينار فإنه دل سفيان بن عيينة وغيره من أصحابه المكيين على السماع من صالح بن كيسان المدني حين قدمها عليهم ، [ ص: 238 ] كما وقعت الإشارة لذلك في الحج من ( صحيح البخاري ) هذا بعد لقي عمرو لصالح وأخذه عنه مع كون عمرو أقدم منه .

وكان شيخنا رحمه الله يحيل غالبا من يسأل في ( صحيح مسلم ) على الزين الزركشي ، وقال مرة لبعض أصحابنا : إذا سمعت على فلان كذا ، وعلى فلان كذا ، وعلى فلان كذا ، كنت مساويا لي فيها في العدد . بل كان يفعل شيئا أخص من هذا ; حيث يحضر من يعلم انفراده من المسمعين بشيء من العوالي مجلسه لأجل سماع الطلبة ومن يلوذ به له ، وربما قرأ لهم ذلك بنفسه ، وفعل الولي ابن الناظم شيئا من ذلك .

على أن ابن دقيق العيد خص ذلك بما إذا حصل الاستواء فيما عدا الصفة المرجحة ، أما مع التفاوت ، بأن يكون الأعلى عاميا لا معرفة له بالصنعة ، والأنزل عارفا ضابطا ، فهذا يتوقف فيه بالنسبة إلى الإرشاد المذكور ; لأنه قد يكون في الرواية عن هذا العامي ما يوجب خللا . انتهى .

فإن أحضره العالم إلى مجلسه كما فعل شيخنا وغيره ، أو أكرمه بالتوجه إليه ، أو كان القارئ أو بعض السامعين من أهل الفن ، فلا نزاع حينئذ في استحباب الإعلام .

( و ) كذا ينبغي استحبابا ( ترك تحديث بحضرة الأحق ) والأولى منه من جهة الإسناد أو غيره ، فقد روى الخطيب أن إبراهيم النخعي كان إذا اجتمع مع الشعبي لا يتكلم إبراهيم بشيء ، فإن كان غائبا فلا .

( وبعضهم كره الأخذ ) بالنقل ، ( عنه ببلد وفيه ) من هو لسنه أو علمه أو ضبطه أو إسناده ، ( أولى منه ) لحديث سمرة : [ ص: 239 ] ( لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما ، فكنت أحفظ عنه وما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالا هم أسن مني ) .

وروى الخطيب أيضا عن عاصم قال : كان زر أكبر من أبي وائل ، فكانا إذا اجتمعا لم يحدث أبو وائل مع زر .

وعن عبيد الله بن عمر قال : كان يحيى بن سعيد يحدثنا ، فإذا طلع ربيعة قطع يحيى حديثه إجلالا له وإعظاما .

وعن حسين بن الوليد النيسابوري قال : سئل عبد الله بن عمر العمري المكبر عن شيء من الحديث فقال : أما أبو عثمان - يعني أخاه عبيد الله المصغر - حي فلا . وعن الثوري أنه قال لابن عيينة : ما لك لا تحدث ؟ فقال : أما وأنت حي فلا . ونحوه قول الناظم لما سئل أن يحدث بـ ( مسند الدارمي ) : أما والشيخ برهان الدين التنوخي حي فلا .

وعن أبي عبد الله المعيطي قال : رأيت أبا بكر بن عياش بمكة ، وأتاه ابن عيينة فبرك بين يديه ، وجاء رجل فسأل ابن عيينة عن حديث فقال : لا تسألني ما دام هذا الشيخ - يعني أبا بكر - قاعدا .

وعن الحسن بن علي الخلال قال : كنا عند معتمر وهو يحدثنا إذ أقبل ابن المبارك ، فقطع معتمر حديثه ، فقيل له : حدثنا . فقال : إنا لا نتكلم عند كبرائنا .

وعن أحمد بن أبي الحواري قال : سمعت ابن معين يقول : إن الذي يحدث بالبلدة وبها من هو أولى بالتحديث منه أحمق ، وأنا إذا حدثت في بلد فيه مثل أبي مسهر - يعني الذي كان أسن منه - فيجب للحيتي أن تحلق . قال ابن أبي الحواري : وأنا إذا حدثت في بلدة فيها مثل أبي الوليد هشام بن عمار - يعني الذي كان أسن منه - فيجب للحيتي أن تحلق .

وعن السلفي قال : كتبت بالإسناد عن بعض المتقدمين أنه قال : من حدث في بلدة وبها من هو أولى بالرواية [ ص: 240 ] منه فهو مختل . انتهى .

والأولوية تحتمل أن تكون في الإسناد أو في غيره ، وهل يلتحق بذلك في الكراهة الجلوس للإفتاء أو لإقراء علم ببلد فيه من هو أولى به منه ؟ الظاهر لا ; لما فيه من التحجير والتضييق الذي الناس خلفا عن سلف على خلافه .

حتى إن العز محمد بن جماعة حكى عن شيخه المحب ناظر الجيش أنه شاهد بمصر قبل الفناء الكبير مائة حلقة في النحو ، ستين منها بجامع عمرو ، وباقيها بجامع الحاكم .

وقد عقد ابن عبد البر بابا لفتوى الصغير بين يدي الكبير ، وأورد فيه ما يشهد لذلك ، والفرق أن الطلبة تتفاوت أفهامهم ، فالقاصر لا يفهم عبارة الأولى ويفهم ممن هو دونه ، وليس كل عالم ربانيا ، والسماع إنما يرغب فيه للأعلى [ ص: 241 ] والأولى ، فبولغ في الاعتناء بالمحافظة على جانب الرواية .

على أن ابن دقيق العيد قال : هكذا قالوا ، ولا بد أن يكون ذلك مشروطا بألا يعارض هذا الأدب ما هو مصلحة راجحة عليه . يعني كما تقدم قريبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية