الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة قوله : { وما ينبغي له } تحقيق في نفي ذلك عنه .

                                                                                                                                                                                                              وقد اعترض جماعة من فصحاء الملحدة علينا في نظم القرآن والسنة بأشياء أرادوا بها التلبيس على الضعفة ، منها قوله { فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } وقالوا : إن هذا من بحر المتقارب ، على ميزان قوله :

                                                                                                                                                                                                              فأما تميم تميم بن مر فألفاهم القوم رءوسا نياما

                                                                                                                                                                                                              وهذا إنما اعترض به الجاهلون بالصناعة ; لأن الذي يلائم هذا البيت من الآية قوله : ( فلما ) إلى قوله ( كل ) وإذا وقفنا عليه لم يتم الكلام . وإذا أتممناه بقوله : { شيء شهيد } خرج عن وزن الشعر ، وزاد فيه ما يصير به عشرة أجزاء كلها على وزن فعولن ، وليس في بحور الشعر ما يخرج البيت منه من عشرة أجزاء ، وإنما أكثره ثمانية .

                                                                                                                                                                                                              ومنها قوله : { ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين } ادعوا أنه من بحر الوافر ، وقطعوه : مفاعيل مفاعيل فعولن مفاعيل مفاعيل فعولن ; وهو على وزن قول الأول : [ ص: 19 ]

                                                                                                                                                                                                              لنا غنم نسوقها غزار     كأن قرون جلتها العصي

                                                                                                                                                                                                              وعلى وزن قول الآخر :

                                                                                                                                                                                                              طوال قنا يطاعنها قصار     وقطرك في ندى ووغى بحار

                                                                                                                                                                                                              وهذا فاسد من أوجه : أحدها أنه إنما كانت تكون على هذا التقدير لو زدت فيها ألفا بتمكين حركة النون من قوله مؤمنين فتقول مؤمنينا .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنها إنما تكون على الروي بإشباع حركة الميم في قوله : { ويخزهم } وإذا دخل عليه التغيير لم يكن قرآنا ، وإذا قرئ على وجهه لم يكن شعرا .

                                                                                                                                                                                                              ومنها قوله : { يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره } ; زعموا أنه موافق بحر الرجز في الوزن ، وهذا غير لازم ; لأنه ليس بكلام تام ، فإن ضممت إليه ما يتم به الكلام خرج عن وزن الشعر .

                                                                                                                                                                                                              ومنها قوله : { وجفان كالجواب وقدور راسيات } ; زعموا أنه من بحر الرجز ، كقول الشاعر امرئ القيس :

                                                                                                                                                                                                              رهين معجب بالقينات

                                                                                                                                                                                                              وهذا لا يلزم من وجهين : أحدهما إنما يجري على هذا الروي إذا زدت ياء بعد الباء في قولك : كالجوابي ، فإذا حذفت الياء فليس بكلام تام ، فيتعلق به أنه ليس على وزن شيء .

                                                                                                                                                                                                              ومنها قوله : { قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون } ; فقالوا : هذه آية تامة ، وهي على وزن بيت من الرمل ; وهذه مغالطة ; لأنه إنما يكون كذلك بأن تحذف من قولك لا تستأخرون قوله : " لا تس " وتوصل قولك يوم بقولك تأخرون ، وتقف مع ذلك على النون من قولك تأخرون ، فتقول تأخرونا بالألف ، ويكون حينئذ مصراعا [ ص: 20 ] ثانيا ، ويتم المصراعان بيتا من الرمل حينئذ ، ولو قرئ كذلك لم يكن قرآنا ، ومتى قرئت الآية على ما جاءت لم تكن على وزن الشعر .

                                                                                                                                                                                                              ومنها قوله : { ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا } . وهذا موضوع على وزن الكامل من وجه ، وعلى روي الرجز من وزن آخر ; وهذا فاسد ; لأن من قرأ عليهم بإسكان الميم يكون على وزن فعول ، وليس في بحر الكامل ولا في بحر الرجز فعولن بحال ، ومن أشبع حركة الميم فلا يكون بيتا إلا بإسقاط الواو من دانية ، وإذا حذفت الواو بطل نظم القرآن .

                                                                                                                                                                                                              ومنها قوله : { ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك } زعموا أرغمهم الله أنها من بحر الرمل ، وأنها ثلاثة أبيات كل بيت منها على مصراع ، وهو من مجزوه على فاعلات فاعلات ، ويقوم فيها فعلات مقامه ، فيقال لهم : ما جاء في ديوان العرب بيت من الرمل على جزأين ، وإنما جاء على ستة أجزاء تامة كلها فاعلات أو فعلات ، أو على أربعة أجزاء كلها فاعلات أو فعلات ; فأما على جزأين كلاهما فاعلات فاعلات فلم يرد قط فيها ; وكلامهم هذا يقتضي أن تكون كل واحدة من هذه الآيات على وزن بعض بيت ، وهذا مما لا ننكره وإنما ننكر أن تكون آية تامة ، أو كلام تام من القرآن على وزن بيت تام من الشعر .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : أليس يكون المجزوء والمربع من الرمل تارة مصرعا وتارة غير مصرع ، فما أنكرتم أن تكون هذه الآيات الثلاث من المجزوء والمربع المصرع من الرمل .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : إن البيت من القصيدة إنما يكون مصرعا إذا كان فيه أبيات أو بيت غير مصرع ، فأما إذا كانت أنصاف أبياته كلها على سجع واحد وكل نصف منها بيت برأسه فقد بينا أنه ليس في الرمل ما يكون على جزأين ، وكل واحد من هذه الآيات جزآن ، فلم يرد على شرط الرمل .

                                                                                                                                                                                                              ومنها قوله تعالى : { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم } وهذا [ ص: 21 ] باطل ; لأن الآية لا تقع في أقوال الشعراء إلا بحذف اللام من قوله : { فذلك } وبتمكين حركة الميم من اليتيم ، فيكون اليتيما .

                                                                                                                                                                                                              ومنها قوله تعالى : { إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم } . فقوله : { وأوتيت من كل شيء ولها } بيت تام ، فقد بينا فساد هذا ، وأن بعض آية وجزءا من كلام لا يكون شعرا .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : يقع بعد ذلك قوله : { ولها عرش عظيم } إتماما للكلام على معنى النظمين ، وقد جاء ذلك في أشعارهم قال النابغة :

                                                                                                                                                                                                              وهم وردوا الجفار على تميم     وهم أصحاب يوم عكاظ إني
                                                                                                                                                                                                              شهدت لهم مواطن صالحات     أنرتهم بنصح القول مني

                                                                                                                                                                                                              قلنا : التضمين على عيبه إنما يكون في بيت على تأسيس بيت قبله ، فأما أن يكون التأسيس بيتا والتضمين أقل من بيت فليس ذلك بشعر عند أحد من العرب ، ولا ينكر أحد أن يكون بعض آية على مثال قول الشعر ، كقوله تعالى : { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } فهذا على نصف بيت من الرجز .

                                                                                                                                                                                                              وكذلك قوله تعالى : { وأعطى قليلا وأكدى } على نصف بيت من المتقارب المستمر ، وهذا كثير .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة وقد ادعوه في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن لم يكن في كتاب الله فهو في كلام الذي نفيت عنه معرفة الشعر ، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : { أنا النبي لا كذب . أنا ابن عبد المطلب } .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : قد قال الأخفش : إن هذا ليس بشعر ، وروى ابن المظفر عن الخليل في كتاب العين : إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعرا . وروى غيره عنه أنه من منهوك الرجز . [ ص: 22 ]

                                                                                                                                                                                                              فعلى القولين الأولين لا يكون شعرا ، وعلى القول الثالث لا يكون منهوك رجز إلا بالوقف على الباء من قولك : لا كذب ، ومن قوله : " عبد المطلب " ولم يعلم كيف قالها النبي صلى الله عليه وسلم والأظهر من حاله أنه قال : لا كذب بتنوين الباء مرفوعة وبخفض الباء من عبد المطلب على الإضافة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يؤثر عنه متمثلا بقول طرفة :

                                                                                                                                                                                                              ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا     ويأتيك من لم تزود بالأخبار

                                                                                                                                                                                                              وقال :

                                                                                                                                                                                                              أتجعل نهبي ونهب العبي     د بين الأقرع وعيينة

                                                                                                                                                                                                              وقال :

                                                                                                                                                                                                              كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا

                                                                                                                                                                                                              فقال له أبو بكر في ذلك : بأبي أنت وأمي ، وقبل رأسه قال الله : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } .

                                                                                                                                                                                                              قالوا : ومنها قوله :

                                                                                                                                                                                                              هل أنت إلا إصبع دميت     وفي سبيل الله ما لقيت

                                                                                                                                                                                                              وألزمونا أن هذا شعر موزون من بحر السريع .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : إنما يكون هذا شعرا موزونا إذا كسرت التاء من دميت ولقيت ، فإن سكنت لم يكن شعرا بحال ; لأن هاتين الكلمتين على هذه الصفة تكون فعول ، ولا مدخل لفعول في بحر السريع . ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قالها ساكنة التاء أو متحركة التاء من غير إشباع .

                                                                                                                                                                                                              قالوا : ومنها قوله : { الله مولانا ولا مولى لكم } ; فادعوا أنه على وزن مشطور الرجز .

                                                                                                                                                                                                              قلنا : إنما يكون شعرا إذا تكلم به المتكلم موصولا ، فإن وقف على قوله : الله مولانا ، أو وصل وحرك الميم من قوله لكم لم يكن شعرا . وقد نقله ووصله بكلام .

                                                                                                                                                                                                              ومنها قوله : { الولد للفراش وللعاهر الحجر } . وهذا فاسد ; لا يكون شعرا إلا بعد تفسير ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فتسكن اللام من قولك الولد ، وهذا لا يقوله أحد . [ ص: 23 ]

                                                                                                                                                                                                              وقد أجاب عن ذلك علماؤنا بأن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يعد شعرا ، وإنما يعد منه ما يجري على وزن الشعر ومع القصد إليه . فقد يقول قائل : حدثنا شيخ لنا ، وينادى يا صاحب الكساء ، ولا يعد هذا شعرا .

                                                                                                                                                                                                              وقد كان رجل ينادي في مرضه وهو من عرض العامة العقلاء : اذهبوا بي إلى الطبيب ، وقولوا قد اكتوى ، وبهذا وسواه يتبين صحة الآية معنى ، وبطلان ما موهوا به قطعا .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية