الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1170 ص: قال أبو جعفر - رحمه الله -: فلما اختلفت هذه الآثار عن رسول الله -عليه السلام- التي فيها بيان الرفع إلى أي موضع هو ، في الموضع الذي انتهى به، وخرج حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي بدأنا بذكره أن يكون مضادا لها؛ أردنا أن ننظر أي هذين المعنيين أولى أن يقال به؟

                                                فإذا فهد بن سليمان قد حدثنا، قال: ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني ، قال: ثنا شريك ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأيته يرفع حذاء أذنيه إذا كبر وإذا رفع وإذا سجد، فذكر من هذا ما شاء الله، قال: ثم أتيته من العام المقبل وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا يرفعون أيديهم فيها، وأشار شريك إلى صدره ".

                                                [ ص: 517 ] فأخبر وائل بن حجر في حديثه هذا أن رفعهم إلى مناكبهم إنما كان لأن أيديهم كانت حينئذ في ثيابهم، وأخبر أنهم كانوا يرفعون إذا كانت أيديهم ليست في ثيابهم إلى حذو آذانهم، فأعلمنا روايتيه كلتيهما، فجعلنا الرفع إذا كانت اليدان في الثياب لعلة البرد إلى منتهى ما استطاع الرفع إليه وهو المنكبان، وإذا كانتا باديتين رفعهما إلى الأذنين كما فعل النبي -عليه السلام-، ولم يجز أن يحمل حديث ابن عمر وما أشبهه مما فيه ذكر رفع اليدين إلى المنكبين كان ذلك واليدان باديتان إذ كان قد يجوز أن يكونا كانتا في الثياب، فيكون ذلك مخالفا لما روى وائل بن حجر فيتضاد الحديثان، ولكنا نجعلهما على الاتفاق فنجعل حديث ابن عمر على أن ذلك كان من النبي -عليه السلام- ويداه في ثوبه - على ما حكى وائل في حديثه - ونجعل ما رواه وائل عن النبي -عليه السلام- لا أنه فعله في غير حال البرد من رفعه يديه إلى أذنيه، فيستحب القول به وترك خلافه.

                                                وأما ما رويناه عن علي -رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام- في ذلك فهو خطأ، وسنبين ذلك في باب رفع اليدين في الركوع إن شاء الله تعالى.

                                                فثبت بتصحيح هذه الآثار ما روى وائل عن النبي -عليه السلام- على ما فصلنا مما فعل في حال البرد وفي غير حال البرد، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن -رضي الله عنهم-.

                                                التالي السابق


                                                ش: ملخصه: أن الأحاديث في هذا الباب رويت على ثلاثة أنواع وبينها تضاد ظاهرا وهي حديث أبي هريرة الذي فيه رفع اليدين مدا، وحديث علي وابن عمر -رضي الله عنهم- الذي فيه رفعهما حذو منكبيه، وحديث البراء ووائل بن حجر ومالك بن الحويرث -رضي الله عنهم- الذي فيه رفعهما إلى الأذنين، وقد بين فيما مضى أن حديث أبي هريرة غير مخالف لحديث ابن عمر ، وبقي الكلام بين حديث ابن عمر ، وحديث وائل ، ومن روى مثله فينبغي أن ينظر بينهما ويوفق؛ دفعا للتضاد، ورفعا للخلاف بينهما؛ فنظرنا فوجدنا شريك بن عبد الله النخعي القاضي روى عن عاصم بن كليب ، عن أبيه، عن وائل ... الحديث، فأخبر وائل فيه أن رفعهم أيديهم إلى مناكبهم إنما كان [ ص: 518 ] لكونها في ثيابهم، وأخبر في حديثه الآخر أنهم كانوا يرفعونها إلى حذو آذانهم إذا لم تكن في ثياب، فحملنا الرفع إلى مناكبهم فيما جاء من الأحاديث على حالة كون الأيدي في الثياب، والرفع إلى آذانهم فيما جاء أيضا من الأحاديث على حالة كون الأيدي بادية أي ظاهرة، فبذلك يحصل الاتفاق بين الحديثين، ويرفع التضاد، وهذا هو الأصل في تصحيح معاني الآثار.

                                                قوله: (فأعلمنا) من الإعلام أي: أعلمنا وائل بن حجر روايتيه المتقدمتين.

                                                قوله: (باديتين) أي: ظاهرتين مكشوفتين.

                                                قوله: (كان ذلك واليدان باديتان) الواو في "واليدان" للحال، وهذا تركيب قلق ولابد من التقدير فيه وهو: أن الأصل "أن كان ذلك". وأن مصدرية، والتقدير لم يجز أن يحمل حديث ابن عمر وما أشبهه مما فيه رفع اليدين إلى المنكبين على كون ذلك والحال أن اليدين باديتان.

                                                قوله: (إذ كان قد يجوز ) وكلمة "إذ" للتعليل.

                                                قوله: (فيكون ذلك) عطف على قوله: "أن يحمل". فافهم.

                                                ثم إسناد حديث شريك هذا صحيح.

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا عثمان بن أبي شيبة ، نا شريك ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: "رأيت النبي -عليه السلام- حين افتتح الصلاة رفع يديه حيال أذنيه، قال: ثم أتيتهم فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم في افتتاح الصلاة وعليهم برانس وأكسية ". انتهى.

                                                قوله: (الأكسية) جمع كساء.

                                                و (البرانس) جمع برنس - بضم الباء الموحدة وبعد الراء الساكنة نون مضمومة ثم سين مهملة - وهو كل ثوب له رأس ملتزق به، دراعة كانت أو جبة أو غير ذلك، كان يلبسه العباد وأهل الخير، وهو عربي اشتق من "البرنس" بكسر الباء وسكون الراء، وهو القطن، والنون زائدة وقيل: إنه غير عربي.

                                                [ ص: 519 ] وقال الجوهري : البرنس قلنسوة طويلة، وكان النساك في صدر الإسلام يلبسونها، وفي "المطالع": قال ابن دريد : البرنس - بضم الباء - نوع من الطيالسة، يلبسه العباد وأهل الخير .




                                                الخدمات العلمية