الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 595 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لما قرر السلطان صلاح الدين بالقدس الشريف ما ذكرناه انفصل عنها في الخامس والعشرين من شعبان ، وأمر ولده العزيز بالرجوع إلى مصر ، وسار السلطان بجيشه فقصد مدينة صور وكانت قد تأخرت من بين تلك النواحي ، وقد استحوذ عليها بعد وقعة حطين رجل من التجار يقال له : المركيس ، فحصنها وضبط أمرها وحفر حولها خندقا من البحر إلى البحر ، وجمهورها في البحر ، وجاء السلطان بجيشه فحاصرها مدة ، واستدعى بالأسطول من الديار المصرية في البحر ، فاحتاط بها برا وبحرا ، فعدت الفرنج في بعض الليالي على خمس شوان من الأسطول ، فملكتها ونكبتها ، فأصبح المسلمون واجمين ، وقد دخل عليهم البرد وقلت الأزواد ، وكثرت الجراحات وكل الأمراء من المحاصرات ، فسألوا السلطان أن ينصرف بهم إلى دمشق في هذا الوقت حتى يستريحوا ثم يعودوا إليها بعد هذا الحين ، فأجابهم بعد تمنع منه وذلك أن السور من صور كان قد هدم أكثره ولم يبق إلا الفتح والنجح ، فتوجه إلى دمشق واجتاز في طريقه على عكا وتفرقت العساكر كل إلى بلده ورستاقه ، مستصحبا كثرة حنينه إلى أهله ووطنه واشتياقه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما السلطان فإنه لما وصل إلى عكا نزل بقلعتها وأسكن ولده الأفضل برج الداوية ، وولى نيابتها عز الدين جرديك ، وقد أشار بعضهم على السلطان بتخريب مدينة عكا خوفا من عود الفرنج إليها ، فكاد ، ولم يفعل ، وليته فعل ، [ ص: 596 ] بل وكل بعمارتها وتجديد محاسنها بهاء الدين قراقوش التقوي ، ووقف دار الإسبتار نصفين على الفقهاء والفقراء ، وجعل دار الأسقف مارستانا ووقف على ذلك كله أوقافا دارة ، وولى نظر ذلك لقاضيها جمال الدين بن الشيخ أبي النجيب ، وهو في جميع ذلك بآرائه مصيب . ولما فرغ السلطان من هذه الحروب ، وأزال عن المسلمين تلك الكروب ، وعاد إلى دمشق مؤيدا منصورا ، أبهج العيون وسر القلوب وجاءته رسل الملوك بالتهاني من سائر الأقطار والأمصار بالتحف والهدايا التي تبهر الأبصار ، وكتب الخليفة إليه يعتب عليه في أشياء منها ; أنه بعث في بشارة الفتح بحطين مع شاب بغدادي كان وضيعا عندهم ، لا قدر له ولا قيمة ، وأرسل بفتح القدس الشريف مع نجاب ، ولقب نفسه بالملك الناصر مضاهاة للخليفة الناصر ، فتلقى الرسول بالبشر واللطف ، ولم يظهر له إلا السمع والطاعة ، وأرسل يعتذر مما وقع بأن الحرب كانت قد شغلته عن التروي في كثير من الأمور ، وأما لقبه بالناصر فهو من أيام الخليفة المستضيء ، ومع هذا فمهما لقبني به أمير المؤمنين فهو الذي لا يعدل عنه ، وتأدب مع الخليفة غاية الأدب ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة ببلاد الهند بين الملك شهاب الدين الغوري صاحب غزنة وبين ملك الهند الكبير ، فأقبلت الهنود في كثير من الجنود ومعهم أربعة عشر فيلا ، فانهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم ، وقيل للملك : انج بنفسك . فما زاده إلا إقداما ، فحمل على الفيلة فجرح بعضها - وجرح الفيل لا يندمل - فرماه بعض الفيالة بحربة في ساعده فخرجت من الجانب الآخر فخر صريعا ، فحملت الهند عليه ليأخذوه ، فجاحف عنه أصحابه ليحموه ، فجرت عنده حرب لم يسمع بشدتها في موقف ، فغلب [ ص: 597 ] المسلمون فخلصوا ملكهم واحتملوه على كواهلهم في محفة عشرين فرسخا ، وقد نزفه الدم ، فلما تراجع إليه جيشه أخذ في تأنيب الأمراء ، وحلف ليأكلن كل أمير عليقة فرسه ، وما أدخلهم غزنة إلا مشاة حفاة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة ولدت امرأة من سواد بغداد بنتا لها أسنان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قتل الخليفة الناصر أستاذ داره أبا الفضل بن الصاحب ، وكان قد استحوذ على الأمور ولم يبق للخليفة معه كلمة ، ومع هذا كان عفيفا عن الأموال ، جيد السيرة ، فأخذ منه الخليفة شيئا كثيرا من الحواصل والأموال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها استوزر الخليفة أبا المظفر عبيد الله بن يونس ولقبه جلال الدين ، ومشى أهل الدولة في ركابه حتى قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني ، وقد كان ابن يونس هذا شاهدا عنده ، فكان القاضي يقول وهو يمشي : لعن الله طول العمر . فمات القاضي في آخر هذه السنة ، رحمه الله تعالى ، وقد حكم في أيام عدة من الخلفاء وهو من بيته .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية