الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قوله ( ولكن يريد ليطهركم ) اختلفوا في تفسير هذا التطهير ، فقال جمهور أهل النظر من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله : إن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية ، فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية ، وهذا الكلام عندنا بعيد جدا ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قوله تعالى : ( إنما المشركون نجس ) ( التوبة : 28 ) وكلمة " إنما " للحصر ، وهذا يدل على أن المؤمن لا تنجس أعضاؤه البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قوله عليه السلام : " المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا " فهذا الحديث مع تلك الآية كالنص الدال على بطلان ما قالوه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أجمعت الأمة على أن بدن المحدث لو كان رطبا فأصابه ثوب لم يتنجس ، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته ، وذلك يدل على أنه لا نجاسة في أعضاء المحدث .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء الأربعة ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل الأعضاء لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع ، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : أن خروج النجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخر !

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : أن قوله ( ولكن يريد ليطهركم ) مذكور عقيب التيمم ، ومن المعلوم بالضرورة أن التيمم زيادة في التقدير وإزالة الوضاءة والنظافة ، وأنه لا يزيل شيئا من النجاسات أصلا .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : أن المسح على الخفين قائم مقام غسل الرجلين ، ومعلوم أن هذا المسح لا يزيل شيئا البتة عن الرجلين .

                                                                                                                                                                                                                                            الثامن : أن الذي يراد زواله إن كان من جملة الأجسام فالحس يشهد ببطلان ذلك ، وإن كان من جملة الأعراض فهو محال ؛ لأن انتقال الأعراض محال ، فثبت بهذه الوجوه أن الذي يقوله هؤلاء الفقهاء بعيد .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في تفسير هذا التطهير أن يكون المراد منه طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى ؛ وذلك لأن الكفر والمعاصي نجاسة للأرواح ، فإن النجاسة إنما كانت نجاسة لأنها شيء يراد نفيه وإزالته وتبعيده ، والكفر والمعاصي كذلك ، فكانت نجاسات روحانية ، وكما أن إزالة النجاسات الجسمانية تسمى طهارة فكذلك إزالة هذه العقائد الفاسدة والأخلاق الباطلة تسمى طهارة ، ولهذا التأويل قال الله تعالى : ( إنما المشركون نجس ) فجعل رأيهم نجاسة ، وقال ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ( الأحزاب : 33 ) فجعل براءتهم عن المعاصي طهارة لهم . وقال في حق عيسى عليه السلام : ( إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ) ( آل عمران : 55 ) فجعل خلاصه عن طعنهم وعن تصرفهم فيه تطهيرا له .

                                                                                                                                                                                                                                            وإذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إلى هذه الأعضاء المخصوصة ، وكانت هذه الأعضاء طاهرة لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة ؛ فلما انقاد لهذا التكليف كان ذلك الانقياد لمحض إظهار العبودية والانقياد للربوبية ، فكان هذا الانقياد قد أزال عن قلبه آثار التمرد فكان ذلك طهارة ، فهذا هو الوجه الصحيح في تسمية هذه الأعمال طهارة ، وتأكد هذا بالأخبار الكثيرة الواردة في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه ، وكذا القول في يديه ورأسه ورجليه .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه القاعدة التي قررناها أصل معتبر في مذهب الشافعي رحمه الله ، وعليه يخرج كثير من المسائل الخلافية في أبواب الطهارة والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 141 ] أما قوله : ( وليتم نعمته عليكم ) ففيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الكلام متعلق بما ذكر من أول السورة إلى هنا ؛ وذلك لأنه تعالى أنعم في أول السورة بإباحة الطيبات من المطاعم والمناكح ، ثم إنه تعالى ذكر بعده كيفية فرض الوضوء فكأنه قال : إنما ذكرت ذلك لتتم النعمة المذكورة أولا ، وهي نعمة الدنيا ، والنعمة المذكورة ثانيا وهي نعمة الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المراد : وليتم نعمته عليكم أي بالترخص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض ، فاستدلوا بذلك على أنه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( لعلكم تشكرون ) والكلام في "لعل" مذكور في أول سورة البقرة في قوله تعالى : ( لعلكم تتقون ) ( البقرة : 21 ) والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية