الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            2852 - ( وعن { حماد بن زيد قال : قلت لأيوب : هل علمت أحدا قال في : أمرك بيدك ، أنها ثلاث إلا الحسن ؟ قال : لا ، ثم قال : اللهم غفرا إلا ما حدثني قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ثلاث قال أيوب : فلقيت كثيرا مولى ابن سمرة فسألته فلم يعرفه ، فرجعت إلى قتادة فأخبرته ، فقال : نسي } . رواه أبو داود والترمذي وقال : هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد ) .

                                                                                                                                            2853 - ( وعن زرارة بن ربيعة عن أبيه عن عثمان في : أمرك بيدك ، القضاء ما قضيت . رواه البخاري في تاريخه ) .

                                                                                                                                            2854 - ( وعن علي قال : الخلية والبرية والبتة والبائن والحرام ثلاثا ، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره . رواه الدارقطني ) .

                                                                                                                                            2855 - ( وعن ابن عمر أنه قال : في الخلية والبرية ثلاثا ثلاثا . رواه الشافعي ) .

                                                                                                                                            2856 - ( وعن يونس بن يزيد قال : سألت ابن شهاب عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه قبل أن يدخل بها ، فقال أبوه : هي طالق ثلاثا ، السنة في ذلك ؟ فقال : أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مولى بني عامر بن لؤي أن محمد بن إياس بن البكير الليثي وكان أبوه شهد بدرا أخبره أن أبا هريرة قال : بانت عنه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وأنه سأل ابن عباس عن ذلك ، فقال مثل قول أبي هريرة ، وسأل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال مثل قولهما .

                                                                                                                                            رواه أبو بكر البرقاني في كتابه المخرج على الصحيحين ) .

                                                                                                                                            2857 - ( وعن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس ، فجاءه رجل فقال : إنه طلق [ ص: 272 ] امرأته ثلاثا ، فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ، ثم قال : ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ، ثم يقول : يا ابن عباس ، يا ابن عباس ، وإن الله قال : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا ، عصيت ربك فبانت منك امرأتك ، وإن الله قال : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن } في قبل عدتهن . رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            2858 - ( وعن مجاهد عن ابن عباس : أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة ، قال : عصيت ربك ، وفارقت امرأتك ، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا . ) .

                                                                                                                                            2859 - ( وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن رجلا طلق امرأته ألفا ، قال : يكفيك من ذلك ثلاث وتدع تسعمائة وسبعا وتسعين ) .

                                                                                                                                            2860 - ( وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنه سئل عن رجل طلق امرأته عدد النجوم ، فقال : أخطأ السنة ، وحرمت عليه امرأته رواهن الدارقطني ، وهذا كله يدل على إجماعهم على صحة وقوع الثلاث بالكلمة الواحدة . وقد روى طاوس عن ابن عباس قال : { كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم } . رواه أحمد ومسلم .

                                                                                                                                            وفي رواية عن طاوس { أن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة ، قال : قد كان ذلك ; فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم } . رواه مسلم وفي رواية : { أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ، قال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال : أجيزوهن عليهم } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            [ ص: 273 ] حديث حماد بن زيد أخرجه أيضا النسائي . وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال : إنما هو عن أبي هريرة موقوقا ، ولم يعرف حديث أبي هريرة مرفوعا . وقال النسائي : هذا حديث منكر ، وأما إنكار الشيخ أنه حدث بذلك فإن كان على طريقة الجزم كما وقع في رواية أبي داود بلفظ : " قال أيوب : فقدم علينا كثير فسألته ، فقال : ما حدثت بهذا قط ، فذكرته لقتادة ، فقال : بلى ولكنه نسي " انتهى . فلا شك أنه علة قادحة وإن لم تكن على طريقة الجزم ، بل عدم معرفة ذلك الحديث وعدم ذكر الجملة والتفصيل بدون تصريح بالإنكار كما في الرواية المذكورة في الباب فليس ذلك مما يعد قادحا في الحديث ، وقد بين هذا في علم اصطلاح الحديث

                                                                                                                                            وقد استدل بهذا الحديث على أن من قال لامرأته : أمرك بيدك ، كان ذلك ثلاثا . وقد اختلف في قول الرجل لزوجته : أمرك بيدك ، وأمرك إليك ، هل هو صريح تمليك للطلاق أو كناية ؟ فحكى في البحر عن الحنفية والشافعية ومالك أنه صريح فلا يقبل قول الزوج بعد ذلك أنه أراد التوكيل . وذهب المؤيد بالله والهادوية إلى أنه كناية تمليك فيقبل قول الزوج أنه أراد التوكيل . قوله : ( قال : الخلية . . . إلخ ) هذه الألفاظ من ألفاظ الطلاق الصريح ، وأما كونها بمنزلة إيقاع ثلاث تطليقات فقد تقدم في لفظ ألبتة ما يدل على أنه بمنزلة الطلاق الثلاث إلا أن يحلف الزوج أنه ما أراد به إلا واحدة ، فيمكن أن يكون علي رضي الله عنه ألحق به بقية الألفاظ المذكورة

                                                                                                                                            وأما لفظ الحرام فسيأتي الكلام عليه في باب من حرم زوجته أو أمته من كتاب الظهار . قوله : ( فطلقوهن في قبل عدتهن ) هذا الأثر إسناده صحيح كما قال صاحب الفتح ، وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس . وذكر نحو الآثار التي عزاها المصنف إلى الدارقطني .

                                                                                                                                            وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر " أنه رفع إليه رجل طلق امرأته ألفا ، فقال له عمر : أطلقت امرأتك ؟ قال : لا ، إنما كنت ألعب ، فعلاه عمر بالدرة وقال : إنما يكفيك من ذلك ثلاث " . وروى وكيع عن علي رضي الله عنه وعثمان نحو ذلك .

                                                                                                                                            وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن ابن مسعود أنه قيل له : " إن رجلا طلق امرأته البارحة مائة ، قال : قلتها مرة واحدة ؟ قال : نعم ، قال : تريد أن تبين منك امرأتك ؟ قال : نعم ، قال : هو كما قلت ، وأتاه آخر فقال : رجل طلق امرأته عدد النجوم ، قال : قلتها مرة واحدة ؟ قال : نعم ، قال : تريد أن تبين منك امرأتك ؟ قال : نعم ، قال : هو كما قلت والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله عنكم " . قوله : ( أناة ) في الصحاح أنه على وزن قناة .

                                                                                                                                            وفي القاموس : والأناة ، كقناة : الحلم والوقار . قوله : ( من هناتك ) جمع هن كأخ ، وهو الشيء يقال : هذا هنك : أي شيئك ، هذا معنى ما في القاموس فكأن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من الأشياء العلمية التي عندك

                                                                                                                                            قوله : ( تتابع الناس ) [ ص: 274 ] بتاءين فوقيتين بعد الألف مثناة تحتية بعدها عين مهملة : وهو الوقوع في الشر من غير تماسك ولا توقف .



                                                                                                                                            واعلم أنه قد وقع الخلاف في الطلاق إذا أوقعت في وقت واحد ، هل يقع جميعها ويتبع الطلاق الطلاق أم لا ؟ . فذهب جمهور التابعين وكثير من الصحابة وأئمة المذاهب الأربعة وطائفة من أهل البيت منهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه والناصر والإمام يحيى ، حكى ذلك عنهم في البحر ، وحكاه أيضا عن بعض الإمامية إلى أن الطلاق يتبع الطلاق . وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الطلاق لا يتبع الطلاق بل يقع واحدة فقط . وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أبي موسى ورواية عن علي عليه السلام وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد والهادي والقاسم والباقر والناصر وأحمد بن عيسى وعبد الله بن موسى بن عبد الله ورواية عن زيد بن علي ، وإليه ذهب جماعة من المتأخرين منهم ابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحققين

                                                                                                                                            وقد نقله ابن مغيث في كتاب الوثائق عن محمد بن وضاح ، ونقل الفتوى بذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي ومحمد بن عبد السلام وغيرهما ، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار ، وحكاه ابن مغيث أيضا في ذلك الكتاب عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير . وذهب بعض الإمامية إلى أنه لا يقع بالطلاق المتتابع شيء ، لا واحدة ولا أكثر منها ، وقد حكي ذلك عن بعض التابعين .

                                                                                                                                            وروي عن ابن علية وهشام بن الحكم ، وبه قال أبو عبيدة وبعض أهل الظاهر وسائر من يقول : إن الطلاق البدعي لا يقع لأن الثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة منه وعدم وقوع البدعي هو أيضا مذهب الباقر والصادق والناصر . وذهب جماعة من أصحاب ابن عباس وإسحاق بن راهويه أن المطلقة إن كانت مدخولة وقعت الثلاث ، وإن لم تكن مدخولة فواحدة

                                                                                                                                            استدل القائلون بأن الطلاق يتبع الطلاق بأدلة : منها قوله تعالى: { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وظاهرها جواز إرسال الثلاث أو الثنتين دفعة أو مفرقة ووقوعها . قال الكرماني : إن قوله : { الطلاق مرتان } يدل على جواز جمع الثنتين ، وإذا جاز جمع الثنتين دفعة جاز جمع الثلاث . وتعقبه الحافظ بأنه قياس مع الفارق ; لأن جمع الثنتين لا يستلزم البينونة الكبرى ، بخلاف الثلاث . وقال الكرماني : إن التسريح بإحسان عام يتناول إيقاع الثلاث دفعة . وتعقب بأن التسريح في الآية إنما هو بعد إيقاع الثنتين فلا يتناول إيقاع الثلاث دفعة ، وقد قيل : إن هذه الآية من أدلة عدم التتابع ; لأن ظاهرها أن الطلاق المشروع لا يكون بالثلاث دفعة ، بل على الترتيب [ ص: 275 ] المذكور . وهذا أظهر

                                                                                                                                            واستدلوا أيضا بظواهر سائر الآيات القرآنية نحو قوله تعالى { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } وقوله تعالى { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } وقوله تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } وقوله تعالى { وللمطلقات متاع بالمعروف } ولم يفرق في هذه الآيات بين إيقاع الواحدة والثنتين والثلاث . وأجيب بأن هذه عمومات مخصصة وإطلاقات مقيدة بما ثبت من الأدلة الدالة على المنع من وقوع فوق الواحدة . واستدلوا أيضا بحديث سهل بن سعد المتقدم في قضية عويمر العجلاني ، وقد قدمنا الجواب عن ذلك . واستدلوا أيضا بالحديث المذكور بعده فيما تقدم من رواية الحسن . وقد تقدم أيضا الجواب عنه

                                                                                                                                            واستدلوا أيضا بما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن يحيى بن العلاء عن عبد الله بن الوليد الوصافي عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود عن عبادة بن الصامت قال : { طلق جدي امرأة له ألف تطليقة ، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما اتقى الله جدك ، أما ثلاث فله ، وأما تسعمائة وسبع وتسعون فعدوان وظلم ، إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له } وفي رواية : { إن أباك لم يتق الله فيجعل له مخرجا ، بانت منه بثلاث على غير السنة ، وتسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه } . وأجيب بأن يحيى بن العلاء ضعيف ، وعبيد الله بن الوليد هالك ، وإبراهيم بن عبيد الله مجهول ، فأي حجة في رواية ضعيف عن هالك عن مجهول ، ثم والد عبادة بن الصامت لم يدرك الإسلام فكيف بجده . واستدلوا أيضا بما في حديث ركانة السابق { أن النبي صلى الله عليه وسلم استحلفه أنه ما أراد إلا واحدة } وذلك يدل على أنه لو أراد الثلاث لوقعت

                                                                                                                                            ويجاب بأن أثبت ما روي في قصة ركانة أنه طلقها ألبتة لا ثلاثا . وأيضا قد تقدم في رواية { أنه صلى الله عليه وسلم قال له : ارجعها ، بعد أن قال له : إنه طلقها ثلاثا } وأيضا قد تقدم فيه من المقال ما لا ينتهض معه للاستدلال . واستدل القائلون بأنه لا يقع من المتعدد إلا واحدة بما وقع في حديث ابن عباس عن ركانة { أنه طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : كيف طلقتها ؟ فقال : ثلاثا في مجلس واحد ، فقال له صلى الله عليه وسلم : إنما تلك واحدة فارتجعها } أخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه . وأجيب عن ذلك بأجوبة : منها أن في إسناده محمد بن إسحاق . ورد بأنهم قد احتجوا في غير واحد من الأحكام بمثل هذا الإسناد . ومنها معارضته لفتوى ابن عباس المذكورة في الباب ، ورد بأن المعتبر روايته لا رأيه ومنها أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته ألبتة كما تقدم . ويمكن أن يكون من روى ثلاثا حمل ألبتة على معنى الثلاث ، وفيه مخالفة للظاهر ، والحديث نص في محل النزاع .

                                                                                                                                            واستدلوا أيضا بحديث ابن عباس المذكور في الباب أن الطلاق كان [ ص: 276 ] على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى آخره ، وقد أجيب عنه بأجوبة : منها ما نقله المصنف رحمه اللهفي هذا الكتاب بعد إخراجه له ولفظه : وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث ; فذهب بعض التابعين إلى ظاهره في حق من لم يدخل بها كما دلت عليه رواية أبي داود ، وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق بأن يقول : أنت طالق أنت طالق أنت طالق ، فإنه يلزمه واحدة إذا قصد التوكيد ، وثلاث إذا قصد تكرير الإيقاع ، فكان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار لم يظهر فيهم خب ولا خداع ، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد ، فلما رأى عمر في زمانه أمورا ظهرت وأحوالا تغيرت وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير إذ صار الغالب عليهم قصدها

                                                                                                                                            وقد أشار إليه بقوله " إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة " . وقال أحمد بن حنبل : كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما قال طاوس وسعيد بن جبير ومجاهد ونافع عن ابن عباس بخلافه . وقال أبو داود في سننه : صار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا ، فكلهم قال : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، انتهى كلام المصنف . وقوله : وتأوله بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق . . . إلخ ، هذا البعض الذي أشار إليه هو ابن سريج

                                                                                                                                            وقد ارتضى هذا الجواب القرطبي . وقال النووي : إنه أصح الأجوبة ، ولا يخفى أن من جاء بلفظ يحتمل التأكيد وادعى أنه نواه يصدق في دعواه ولو في آخر الدهر ، فكيف بزمن خير القرون ومن يليهم ؟ وإن جاء بلفظ لا يحتمل التأكيد لم يصدق إذا ادعى التأكيد من غير فرق بين عصر وعصر . ويجاب عن كلام أحمد المذكور بأن المخالفين لطاوس من أصحاب ابن عباس إنما نقلوا عن ابن عباس رأيه ، وطاوس نقل عنه روايته فلا مخالفة . وأما ما قاله ابن المنذر من أنه لا يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي بخلافه . فيجاب عنه بأن الاحتمالات المسوغة لترك الرواية والعدول إلى الرأي كثيرة : منها النسيان ، ومنها قيام دليل عند الراوي لم يبلغنا ، ونحن متعبدون بما بلغنا دون ما لم يبلغ . وبمثل هذا يجاب عن كلام أبي داود المذكور

                                                                                                                                            ومن الأجوبة عن حديث ابن عباس المذكور ما نقله البيهقي عن الشافعي أنه قال : يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئا نسخ . ويجاب بأن النسخ إن كان بدليل من كتاب أو سنة فما هو ؟ وإن كان بالإجماع فأين هو ؟ على أنه يبعد أن يستمر الناس أيام أبي بكر وبعض أيام عمر على أمر منسوخ وإن كان الناسخ قول عمر المذكور [ ص: 277 ] فحاشاه أن ينسخ سنة ثابتة بمحض رأيه ، وحاشا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه إلى ذلك . ومن الأجوبة دعوى الاضطراب كما زعمه القرطبي في المفهم ، وهو زعم فاسد لا وجه له . ومنها ما قاله ابن العربي : إن هذا حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على الإجماع ؟ ويقال : أين الإجماع الذي جعلته معارضا للسنة الصحيحة

                                                                                                                                            ومنها أنه ليس في سياق حديث ابن عباس أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقرره ، والحجة إنما هي في ذلك . وتعقب بأن قول الصحابة : كنا نفعل كذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حكم المرفوع على ما هو الراجح . وقد عملتم بمثل هذا في كثير من المسائل الشرعية . والحاصل أن القائلين بالتتابع قد استكثروا من الأجوبة على حديث ابن عباس وكلها غير خارجة عن دائرة التعسف والحق أحق بالاتباع ، فإن كانت تلك المحاماة لأجل مذاهب الأسلاف فهي أحقر وأقل من أن تؤثر على السنة المطهرة ، وإن كانت لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أي مسلم من المسلمين يستحسن عقله وعلمه ترجيح قول صحابي على قول المصطفى . واحتج القائلون بأنه لا يقع شيء لا واحدة ولا أكثر منها ، بقوله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } فشرط في وقوع الثالثة أن تكون في حال يصح من الزوج فيها الإمساك ، إذ من حق كل مخير بينهما أن يصح كل واحد منهما ، وإذا لم يصح الإمساك إلا بعد المراجعة لم تصح الثالثة إلا بعدها لذلك ، وإذا لزم في الثالثة لزم في الثانية ، كذا قيل . وأجيب بمنع كون ذلك يدل على أنه لا يقع الطلاق إلا بعد الرجعة

                                                                                                                                            ومن الأدلة الدالة على عدم وقوع شيء الأدلة المتقدمة في الطلاق البدعي . واستدلوا أيضا بحديث { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وهذا الطلاق ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم . وأجيب بتخصيص هذا العموم بما سبق في أدلة القولين الأولين من الحكم بوقوع الطلاق المثلث ; لأنا وإن منعنا وقوع المجموع لم نمنع من وقوع الفرد . والقائلون بالفرق بين المدخولة وغيرها أعظم حجة لهم حديث ابن عباس ، فإن لفظه عند أبي داود : { أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة ؟ } الحديث ، ووجهوا ذلك بأن غير المدخول بها تبين إذا قال لها زوجها : أنت طالق ، فإذا قال : ثلاثا ، لغا العدد لوقوعه بعد البينونة

                                                                                                                                            ويجاب بأن التقييد بقبل الدخول لا ينافي صدق الرواية الأخرى الصحيحة على المطلقة بعد الدخول . وغاية ما في هذه الرواية أنه وقع فيها التنصيص على بعض أفراد مدلول الرواية الصحيحة المذكورة في الباب ، وذلك لا يوجب الاختصاص بالبعض الذي وقع التنصيص عليه : وأجاب القرطبي عن ذلك التوجيه بأن قوله : أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل ، فكيف يصح جعله كلمتين وتعطى كل كلمة حكما ؟ هذا حاصل ما في هذه [ ص: 278 ] المسألة من الكلام ، وقد جمعت في ذلك رسالة مختصرة




                                                                                                                                            الخدمات العلمية