الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور

                                                                                                                                                                                                قرئ : "لسبأ " بالصرف ومنعه ، وقلب الهمزة ألفا . ومسكنهم : بفتح الكاف وكسرها ، [ ص: 115 ] وهو موضع سكناهم ، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها ، أو مسكن كل واحد منهم . وقرئ : (مساكنهم ) و (جنتان ) بدل من آية . أو خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الآية جنتان . وفى الرفع معنى المدح ، تدل عليه قراءة من قرأ : (جنتين ) بالنصب على المدح . فإن قلت : ما معنى كونهما آية ؟ قلت : لم يجعل الجنتين في أنفسهما آية ، وإنما جعل قصتهما ، وأن أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما ، وأبدلهم عنهما الخمط والأثل : آية ، وعبرة لهم ، ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم . ويجوز أن تجعلهما آية ، أي : علامة دالة على الله ، وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره . فإن قلت : كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ، ورب قرية من قريات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت ؟ قلت : لم يرد بستانين اثنين فحسب ، وإنما أراد جماعتين من البساتين : جماعة عن يمين بلدهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها ، كأنها جنة واحدة ، كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال : جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب كلوا من رزق ربكم إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم ، أو لما قال لهم لسان الحال . أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، ولما قال : كلوا من رزق ربكم واشكروا له أتبعه قوله : بلدة طيبة ورب غفور يعني : هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة ، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره . وعن ابن عباس -رضي الله عنهما - : كانت أخصب البلاد وأطيبها : تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر ، فيمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر "طيبة " لم تكن سبخة . وقيل : لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية . وقرئ : (بلدة طيبة وربا غفورا ) بالنصب على المدح . وعن ثعلب : معناه اسكن واعبد "العرم " الجرذ الذي نقب عليهم السكر ، ضربت لهم بلقيس الملكة بسد ما بين الجبلين بالصخر والقار ، فحقنت به ماء العيون والأمطار ، وتركت فيه خروقا على مقدار ما يحتاجون إليه من سقيهم ، فلما طغوا قيل : بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا يدعونهم إلى الله ويذكرونهم نعمته عليهم فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة سلط الله على سدهم الخلد ، فنقبه من إسفله فغرقهم . وقيل : العرم جمع عرمة : وهي الحجارة المركومة . [ ص: 116 ] ويقال للكدس من الطعام : عرمة والمراد : المسناة التي عقدوها سكرا ، وقيل : العرم اسم الوادي ، وقيل : العرم المطر الشديد . وقرئ : (العرم ) بسكون الراء . وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم . وقرئ : (أكل ) بالضم والسكون ، وبالتنوين والإضافة ، والأكل : الثمر . والخمط : شجر الأراك ، وعن أبي عبيدة : كل شجر ذي شوك . وقال الزجاج : كل نبت أخذ طعما من مرارة ، حتى لا يمكن أكله . والأثل : شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عودا . ووجه من نون : أن أصله ذواتي أكل أكل خمط . فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . أو وصف الأكل بالخمط ، كأنه قيل : ذواتي أكل بشع . ومن أضاف وهو أبو عمر وحده ، فلأن أكل الخمط في معنى البرير ، كأنه قيل : ذواتي برير . والأثل والسدر : معطوفان على أكل ، لا على خمط لأن الأثل لا أكل له . وقرئ : (وأثلا ) و (شيئا ) بالنصب عطفا على جنتين . وتسمية البدل جنتين ، لأجل المشاكلة وفيه : ضرب من التهكم . وعن الحسن رحمه الله : قال السدر : لأنه أكرم ما بدلوا . وقرئ : (وهل يجازى ) و (هل نجازي ) بالنون . و (هل يجازي ) والفاعل الله وحده . و (هل يجزي ) والمعنى : أن مثل هذا الجزاء لا يستحقه إلا الكافر ، وهو العقاب العاجل ، وقيل : المؤمن تكفر سيئاته بحسناته ، والكافر يحبط عمله فيجازى بجميع ما عمله من السوء ، ووجه آخر : وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة ، يستعمل تارة في معنى المعاقبة ، وأخرى في معنى الإنابة ، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله : جزيناهم بما كفروا بمعنى : عاقبناهم بكفرهم . قيل : وهل نجازي إلا الكفور بمعنى : وهل يعاقب ؟ وهو الوجه الصحيح ; وليس لقائل أن يقول : لم قيل : وهل يجازى إلا الكفور ، على اختصاص الكفور بالجزاء ، والجزاء عام للكافر والمؤمن ; لأنه لم يرد الجزاء العام ، وإنما أراد الخاص وهو العقاب ، بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه . ألا ترى أنك لو قلت : جزيناهم بما كفروا ، وهل يجازى إلا الكافر والمؤمن : لم يصح ولم يسد كلاما ؟ فتبين أن ما يتخيل من السؤال مضمحل ، وأن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية