الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                فصل

                                                                                                                لبعض العلماء الأدباء العقلاء ، قال ابن يونس : إذا كنت قاضيا ، أو أميرا فلا يكون شأنك حب المدح ، والتزكية ، فيعرف ذلك منك ، فيتحدث في عرضك بسببه ، ويضحك منك ، لتكن حاجتك في الولاية ثلاث خصال : رضا ربك ، ورضا سلطانك - إن كان فوقه سلطان - ورضا صالح من وليت عليه ، اعرف أهل الدين ، والمروءة ، في كل كورة ، وليكونوا إخوانك ، لا تقل إن استشرت : أظهرت الحاجة للناس ، فإنك لم ترد الرأي للفخر بل للمنفعة مع أن الذكر الجميل لك بذلك عند [ ص: 363 ] العلماء ، لا يهن عليك أهل العقل ، والخير ، ولا تمكن غيرهم من أذيتهم ، عرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا بها ، والتي لا يخافونك إلا من قبلها ، واجتهد في أن لا يكون من عمالك جائر ، فإن المسيء يفرق من خبرتك به قبل أن تصيبه عقوبتك ، والمحسن يستبشر بعملك قبل أن يأتيه معروفك ، ولتعرفهم ما يتقون من أخلاقك أنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب ، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ، ورجاء الراجي ، عود نفسك الصبر على ما خالفك من رأي أهل النصيحة ، ولا يسهل ذلك إلا على أهل الفضل ، والعقل ، والمروءة ، ولا تترك مباشرة عظيم أمرك فيعود شأنك صغيرا ، ولا تباشر الصغير من الأمر ، فتضيع الكبير ، وأنت لا تتسع لكل شيء ، فتفرغ للمهم ، وكرامتك لا تسع العامة فتوخ أهل الفضل ، إنك وأنت عاجز عن جميع مصالحك ، فأحسن قسمة نفسك بينها ، لا تكثر البشر ولا القبض ، فإن أحدهما سخف ، والآخر كبر ، ليس لملك أن يغضب ; لأن قدرته تحصل مقصودة ، ولا يكذب ; لأنه لا يقدر أحد على إكراهه ، وليس له أن يبخل لبعد عذره عن خوف الفقر ، ولا أن يحقد ; لأن حقده خطر على الرعية ، ولا يكثر الحلف بل الملك أبعد الناس عن الحلف ; لأنه لا يحلف للناس إلا لمهانة في نفس الحالف أو حاجته للتصديق ، أو عي في الكلام ، فيجعل الحلف حشوا ، أو تهمة عرفها الناس في حديثه فيبعد نفسه عنها ، أحق الناس بجبر نفسه عن العدل الوالي ليقتدي به غيره ، الناس ينسبون الوالي إلى نسيان العهد ، ونقض الود ، فليكذب قولهم ، وليبطل عن نفسه صفات السوء ، وليهتم بسد خلة الإخوان ، وردع عادية السفلة ، إنما يصول الكريم إذا جاع ، واللئيم إذا شبع ، لا يولع الوالي بسوء الظن ، وليجعل لحسن الظن عنده نصيبا ، لا تهمل التثبت فإن الرجوع عن الصمت أولى من الرجوع عن الكلام ، والعطية بعد المنع أولى من المنع بعد العطية ، وأحوج الناس للتثبت الملوك ; لأنه ليس لقولهم دافع ، ولا منكر ، مرشد ، جميع ما يحتاج إليه من الرأي رأيان : رأي يقوي به سلطانه ، ورأي يزينه في الناس ، والأول مقدم .

                                                                                                                إن ابتليت بصحبة السلطان فعليك بالمواظبة ، وترك المعاتبة ، ولا يحملك الأنس [ ص: 364 ] على الغفلة ، ولا التهاون فيما ينبغي ، فإذا جعلك أخا فاجعله سيدا ، وإن زاد فزده تواضعا ، وإذا جعلك ثقته فأقلل الملق ، ولا تكثر له من الدعاء في كل كلمة ، فإنه يشبه الوحشة ، إلا أن تكلمه على رءوس الناس فتبالغ في توقيره ، وإن كان لا يريد صلاح رعيته ، فأبعده فإنك لا تعدم فساده إن خالفته ، أو فساد الرعية إن وافقته ، فإن نشبت معه فاصبر حتى تجد للفراق سبيلا ، لئلا تسأل رضاه ، فلا تجده ، لا تخبرن الوالي أن لك عليه حقا ، أو تقدم يد ، وإن استطعت أن تنسى ذلك فافعل ; لأنها تصير بغضة .

                                                                                                                واعلم أن السلطان إذا انقطع عليه الآخر نسي الأول ، وأن أرحامهم مقطوعة ، وحبالهم مصرومة ، إلا عمن رضوا عنه ، إذا ذكرت عنده بشر فلا تره احتفالا بذلك ، ولا توقعه من نفسك موقعا عظيما لئلا تظهر عليك الريبة بما قيل فيك ، وإن احتجت للجواب فإياك وجواب الغضب ، وعليك بجواب الوقار ، والحجة ، لا تعدن شتم الوالي شتما ، فإن ريح العزة يبسط اللسان بالغلظة من غير سخط ، لا تأمنن جانب المسخوط عليه عند السلطان ، ولا يجمعنك وإياه منزل ، ولا مجلس ، ولا تظهر له عذرا ، ولا تثن عليه خيرا عند أحد من الناس ، فإذا تبين للوالي مباعدتك منه قطع عذره عند الوالي ، واعمل في الرضا عنه في لطف ، واطلب منه وقت طيب نفسه لجميع مقاصدك ، إذا كنت ذا جاه عنده فلا تتكبر على أهله ، وأعوانه ، ولا تظهر الاستغناء عنهم لتوقع الحاجة إليهم عند وقوع المحن ، إذا سأل الوالي غيرك فلا تجب أنت ، فإن ذلك سوء أدب على السائل ، والمسئول ، ولعله يقول لك : ما سألتك أنت ، وإن سأل جماعة أنت منهم فلا تبادر بالجواب فإنه خفة ، وإن سبقت الجماعة صاروا لجوابك خصماء يعيبونه ، ويتتبعونه ، ويفسدونه ، وإن أخرت جوابك تدبرت أقاويلهم ، فكان فكرك أقوى بذلك فيكون جوابك أحسن ، ويتفرغ سمعه لك ، وإن فاتك الجواب ، فلا تحزن ، فإن صيانة القول خير من قول في غير موضعه ، وكلمة صائبة في وقت خير من كلام كثير خطأ ، والعجلة منوطة بالزلل .

                                                                                                                إذا كلمك الوالي فلا تشغل طرفك بالنظر لغيره ، ولا أطرافك بعمل ، ولا [ ص: 365 ] قلبك بفكر غيره ، اتخذ نظراءك عنده إخوانا ، ولا تنافسهم ، فإنهم مظنة الحسدة ، والهلكة ، ولا تجسرن على مخالفتهم ، وإن اعترفوا لك بالفضل ، فإن النفس مجبولة على كراهة التقدم عليها فيردون عليك ، فإن راددتهم صرت مناقضهم وهم مناقضوك ، وإن سكت صرت مردود القول ، إياك أن تشكو لأخلائه ، أو خدمه ما تجده مما تكرهه منه ، فإن ذلك عاقبته مخوفة ، [ واحتمال ما خالفك من رأيه أوجب من مناقضته فيه إلا أن يسهل على نفسك مفارقته ] ، ولا تصحب السلطان إلا بعد رياضة نفسك على المكروه منه عندك ، ولا تكتمه سرك ، ولا تبح سره ، وتجتهد في رضاه ، والتلطف في حاجته ، والتصديق لمقالته ، والتزيين لرأيه ، وقلة القلق مما أساءوا لك ، وأكثر نشر محاسنه ، وأحسن الستر لمساوئه ، وتقرب ما قرب ، وإن كان بعيدا ، وتبعد ما باعد وإن كان قريبا ، والاهتمام بأمره ، وإن لم يهتم به ، والحفظ لما ضيعه من شأنه ، والذكر لما نسيه ، وخفف مؤنتك عليه .

                                                                                                                ابذل لصديقك دمك ، ولمعارفك رفدك ، ومحضرك ، وللعامة بشرك ، وتحيتك ، ولعدوك عدلك وصبرك ، وابخل بدينك ، وعرضك عن كل أحد إلا لضرورة وال أو ولد ، ولغيرهما فلا ، وإن سمعت من صاحبك كلاما حسنا ، أو رأيا فانسبه إليه ; لأن نسبته لنفسك مفسدة له ، وعار عليك ، فإن فعل هو ذلك في كلامك فسامحه به ، وآنسه مع ذلك بما تستطيع لئلا يستوحش ، وإياك أن تشرع في حديث ، ثم تقطعه ، فإنه سخف ، ولا تشرع إلا إذا علمت أنه يكمل لك ، وافهم العلماء إذا اجتمعت بهم ، ولتكن أحرص على أن تسمع من أن تقول ، لا تألم إذا رأيت صديقك مع عدوك فقد يكفيك شره ، أو ستر عورة لك عنده ، تحفظ في مجلسك من التطويل ، واسمع عن كثير مما يكون عندك فيه صواب لئلا يظن جلساؤك أنك تريد الفضل عليهم ، ولا تدع العلم في كل ما يعرض ، فإنهم إن نازعوك عرضوك للجهالة ، أو تركوك فقد عرضتهم للجهل والعجز ، واستح كل الحيا أن تدعي أن صاحبك [ ص: 366 ] جاهل ، وأنك عالم ولو بالتعريض ، واعلم أنك إذا صبرت ظهر ذلك منك بالوجه الجميل ، وكن عالما كجاهل ، وقاطعا كصاحب ، وإذا حدث بين يديك ما تعرفه فلا تظهر معرفته ; لأنه من سوء الأدب ، وليفهم عنك أنك أقرب إلى أن تفعل ما لا تقول من أن تقول ما لا تفعل ، ففضل القول على الفعل عار ، وفضل الفعل على القول مكرمة ، وطن نفسك على أنك لا تفارق أخاك ، وإن جفاك ، وليس كالمرأة التي متى شئت طلقتها ، بل هي عرضك ، ومروءتك ، فمروءة الرجل إخوانه فإن قطع الأخ حبالة الإخاء فلا تعتذر إلا لمن يجب أن يظفر لك بعذر ، ولا تستعن إلا بمن تحب أن يظفر لك بحاجة ، ولا تحدثن إلا من يعد حديثك مغنما ما لم تغلبك الضرورة ، إذا غرست المعروف ، فتعاهد غرسك لئلا تضيع نفقة الغرس ، من اعتذر لك فتلقه بالبشر ، والقبول ، إلا أن يكون ممن قطيعته غنيمة ، إخوان الصدق خير من مكاسب الدنيا : زينة في الرخاء ، وعدة عند الشدة ، ومعونة على المعاد ، والمعاش ، فاجتهد في اكتسابهم ، وواظب على صلة أسبابهم ، الكريم أصبر قلبا ، واللئيم أصبر جسما ، اجتهد في أن لا تظهر لعدوك أنه عدوك ; لأنه يلبس السلاح لك ، بل أظهر صداقته تظفر به ، ويقل شره ، ومن الحزم أن تؤاخي إخوانه ، فتدخل بينهم وبينه العداوة ، ومع السكوت عنه فأحص عوراته ، ومعايبه لا يخفى عليك شيء ولا تشع فلك [ . . . ] له ، اعلم أن بعض العطاء سرف ، وبعض البيان عي ، وبعض العلم جهل ، وعن جعفر الصادق رضي الله عنه : ما كل ما يعلم يقال ، ولا كل ما يقال حضر أوانه ، ولا كل ما حضر أوانه حضر إخوانه ، ولا كل ما حضر إخوانه حضرت أحواله ، ولا كل ما حضرت أحواله أمن عواره ، فحافظ لسانك ما استطعت والسلام .

                                                                                                                وقد أتيت في هذا الكتاب ما أسأل الله جل جلاله وتعاظمت [ . . . ] أن ينفعكم به معاشر الإخوان في الله تعالى ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية