الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر تركته ، وشيء من ترجمته

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال العماد وغيره : لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد [ ص: 655 ] صوري وستة وثلاثين درهما . وقال غيره : سبعة وأربعين درهما ، ولم يترك دارا ولا عقارا ولا مزرعة ولا بستانا ، ولا شيئا من أنواع الأملاك . هذا وله من الأولاد سبعة عشر ذكرا وابنة واحدة ، وتوفي له في بعض حياته غيرهم ، والذين تأخروا بعده ستة عشر ذكرا ، أكبرهم الملك الأفضل نور الدين علي ، ولد بمصر سنة خمس وستين ليلة عيد الفطر ، ثم العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ولد بمصر أيضا في جمادى الأولى سنة سبع وستين ، ثم الظافر مظفر الدين أبو العباس الخضر ، ولد بمصر في شعبان سنة ثمان وستين ، وهو شقيق الأفضل ، ثم الظاهر غياث الدين أبو منصور غازي ، ولد بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين ، ثم المعز فتح الدين أبو يعقوب إسحاق ، ولد بدمشق في ربيع الأول سنة سبعين ، ثم نجم الدين أبو الفتح مسعود ، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين ، وهو شقيق العزيز ، ثم الأغر شرف الدين أبو يوسف يعقوب ، ولد بمصر سنة ثنتين وسبعين ، وهو شقيق العزيز أيضا ، ثم الزاهر مجير الدين أبو سليمان داود ، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين ، وهو شقيق الظاهر ، ثم أبو الفضل قطب الدين موسى ، وهو شقيق الأفضل ، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين أيضا ، ثم لقب بالمظفر ، ثم الأشرف معز الدين أبو عبد الله محمد ، ولد بالشام سنة خمس وسبعين ، ثم المحسن ظهير الدين أبو العباس أحمد ; ولد بمصر سنة سبع وسبعين ، وهو شقيق الذي قبله ، ثم المعظم فخر الدين أبو منصور تورانشاه ، ولد بمصر في ربيع الأول سنة سبع وسبعين ، وتأخرت وفاته إلى سنة ثمان وخمسين وستمائة ، ثم الجوال ركن الدين أبو سعيد أيوب ولد سنة ثمان وسبعين ، وهو شقيق للمعز ، [ ص: 656 ] ثم الغالب نصير الدين أبو الفتح ملكشاه ، ولد في رجب سنة ثمان وسبعين وهو شقيق المعظم ، ثم المنصور أبو بكر أخو المعظم لأبويه ، ولد بحران بعد وفاة السلطان ، ثم عماد الدين شاذي لأم ولد ، ونصرة الدين مروان لأم ولد أيضا . وأما البنت فهي مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ، رحمهم الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإنما لم يخلف أموالا ولا أملاكا ; لكثرة عطاياه وهباته وصدقاته وإحسانه إلى أمرائه ووزرائه وأوليائه ، حتى إلى أعدائه ، وقد أسلفنا ما يدل على كثير من ذلك ، رحمه الله ، وقد كان متقللا في ملبسه ، ومأكله ، ومشربه ، ومركبه ، فلا يلبس إلا القطن والكتان والصوف ، ولا يعرف أنه تخطى مكروها بعد أن أنعم الله عليه بالملك ، بل كان همه الأكبر ومقصوده الأعظم نصر الإسلام ، وكسر الأعداء اللئام ، ويعمل فكره في ذلك ورأيه وحده مع من يثق برأيه ليلا ونهارا ، سرا وجهارا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهذا مع ما لديه من الفضائل والفواضل ، والفوائد الفرائد ، في اللغة والأدب ، وأيام الناس ، حتى قيل : إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها وختامها . وكان مواظبا على الصلوات في أوقاتها في جماعة ، يقال : إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل حتى ولا في مرض موته ، كان يدخل الإمام فيصلي به فكان يتجشم القيام مع ضعفه ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة ، ويشارك في ذلك [ ص: 657 ] مشاركة قريبة حسنة ، وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها ، وكان قد جمع له القطب النيسابوري عقيدة فكان يحفظها ، ويحفظها من عقل من أولاده ، وكان يحب سماع القرآن العظيم ، ويواظب على سماع الحديث حتى إنه سمع في بعض المصافات جزءا ، وهو بين الصفين ، فكان يتبجح بذلك ويقول : هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثا . وكان ذلك بإشارة العماد الكاتب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث ، كثير التعظيم لشعائر الدين ; كان قد لجأ إلى ولده الظاهر ، وهو بحلب ، شاب يقال له : الشهاب السهروردي ، وكان يعرف الكيميا وشيئا من الشعبذة ، والأبواب النيرنجيات ، فافتتن به ولد السلطان الظاهر ، وقربه وأحبه ، وخالف فيه حملة الشرع ، فكتب إليه أن يقتله لا محالة فصلبه عن أمر والده ، وشهره ، ويقال : بل حبسه بين حائطين حتى مات كمدا ، وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان السلطان صلاح الدين ، رحمه الله ، من أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا ، مع ما كان يعتري جسمه من الأمراض والأسقام ، ولاسيما وهو مرابط مصابر مثابر عند عكا ; فإنه كان مع كثرة جموعهم وأمدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة ، وقد بلغت جموعهم خمسمائة ألف مقاتل ، ويقال : ستمائة ألف . وكان جملة من قتل منهم مائة ألف مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 658 ] ولما انفصل الحال ، وتسلموا عكا وقتلوا أكثر من كان بها ، وساروا برمتهم نحو بيت المقدس ; جعل يسايرهم منزلة منزلة ، ومرحلة مرحلة وجيوشهم أضعاف أضعاف من معه ، ومع هذا نصره الله وخذلهم ، وأيده وقتلهم ، وسبقهم إلى البيت المقدس ، فصانه وحماه ، وشيد بنيانه ، وأطد أركانه ، وصان حماه ولم يزل بجيشه مقيما به يرهبهم ويرعبهم ، ويغلبهم ويسلبهم ويكسرهم ويأسرهم ، حتى تضرعوا إليه ، وخضعوا لديه ، ودخلوا عليه أن يصالحهم ويتاركهم ، وتضع الحرب أوزارها بينهم وبينه فأجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذي أراده ، لا ما يريدونه ، وكان ذلك من جملة الرحمة التي خص بها المؤمنون ; فإنه ما انقضت تلك السنون حتى ملك البلاد أخوه أبو بكر العادل ، فعز به المسلمون ، وذل به الكافرون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان رحمه الله سخيا كريما حييا ضحوك الوجه كثير البشر ، لا يتضجر من خير يفعله ، شديد المصابرة والمثابرة على الخيرات والطاعات فرحمه الله ، وأسكنه الجنات . وقد ذكر الشيخ شهاب الدين أبو شامة طرفا صالحا من سيرته وأيامه ، وعدله في سريرته وعلانيته ، وأحكامه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية