الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          في النشوز

                                                                                                                          وهو معصيتها إياه مما يجب عليها ، وإذا ظهر منها أمارات النشوز ، بألا تجيبه إلى الاستمتاع ، أو تجيبه متبرمة متكرهة - وعظها ، فإن أصرت ، هجرها في المضجع ما شاء ، وفي الكلام ما دون ثلاثة أيام ، فإن أصرت ، فله أن يضربها ضربا غير مبرح ، فإن ادعى كل واحد ظلم صاحبه له ، أسكنهما الحاكم إلى جانب ثقة ، يشرف عليهما ، ويلزمهما الإنصاف ، فإن خرجا إلى الشقاق والعداوة ، بعث الحاكم حكمين حرين مسلمين عدلين ، والأولى أن يكونا من أهلهما برضاهما ، فيكشفان عن حالهما ، ويفعلان ما يريانه من جمع وتفريق بينهما بطلاق أو خلع ، فإن امتنعا من التوكيل ، لم يجبرا ، وعنه : أن الزوج إن وكل في الطلاق بعوض أو غيره ، ووكلت المرأة في بدل العوض برضاهما ، وإلا جعل الحاكم إليهما ذلك ، فإن غاب الزوجان أو أحدهما ، لم ينقطع نظر الحكمين على الأولى ، وتنقطع على الثانية ، وإن جنا انقطع نظرهما على الأولى ، ولم ينقطع على الثانية .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل

                                                                                                                          في النشوز

                                                                                                                          وهو كراهة كل واحد من الزوجين صاحبه ، وسوء عشرته ، يقال : نشزت المرأة على زوجها فهي ناشزة ، وناشز ، ونشز عليها زوجها : إذا جفاها وأضر بها ( وهو معصيتها إياه مما يجب عليها ) من طاعته ، مأخوذ من النشز وهو الارتفاع ، فكأنها ارتفعت وتعالت عما يجب عليها من طاعته ( وإذا ظهر منها أمارات النشوز ، بألا تجيبه إلى الاستمتاع ، أو تجيبه متبرمة متكرهة - وعظها ) بأن يذكر لها ما أوجب الله تعالى عليها من الحق ، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة ، وما يسقط بذلك من النفقة والكسوة ، وما يباح له من هجرها وضربها; لقوله تعالى : واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن [ النساء : 34 ] ( فإن أصرت ) ناشزة ، بأن تعصيه وتمتنع من فراشه ، أو تخرج بغير إذنه ( هجرها في المضجع ) بفتح الجيم ، والمراد : أن يهجر فراشها فلا يضاجعها فيه ( ما شاء ) ; لقوله تعالى : واهجروهن في المضاجع وقال ابن عباس : لا تضاجعها في فراشك; لأن [ ص: 215 ] القرآن مطلق ، فلا يقيد بغير دليل ، وفي " التبصرة " و " الغنية " و " المحرر " : ثلاثة أيام; لأن الهجران فوق ذلك حرام ( وفي الكلام ما دون ثلاثة أيام ) ; لما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام وقد هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه فلم يدخل عليهن شهرا - متفق عليه ، وفي " الواضح " : يهجرها في الفراش ، فإن أضاف إليه الهجر في الكلام ودخوله وخروجه عليها - جاز ، مع الكراهة ( فإن أصرت ، فله أن يضربها ضربا غير مبرح ) أي : غير شديد; لقوله تعالى : واضربوهن ولا يبرح بالضرب; للخبر الصحيح ، قال الخلال : سألت أحمد بن يحيى ثعلبا عن قوله : ضربا غير مبرح ، أي : غير شديد ، وهو عشرة أسواط فأقل ، قاله الأصحاب ، وهو حسبه ، ذكره في " الانتصار " ، لكن يمنع منها من علم بمنعه حقها حتى يؤديه ، وعليه اجتناب المواضع المخوفة والمستحسنة ; لأن المقصود التأديب ، وعنه : له ضربها بأول النشوز; للآية والخبر ، وظاهر المذهب : لا; لأن المقصود بهذه العقوبات زجرها عن المعصية في المستقبل ، فيبدأ بالأسهل فالأسهل ، كإخراج من هجم بمنزله ، وظاهره : أن ليس لنا موضع يضرب المستحق من منعه حقه غير هذا ، والعبد يمتنع من حق سيده ، ولا يملك تعزيرها في حق الله ، نقل مهنا : هل يضربها على ترك زكاة ؛ قال : لا أدري ، وفيه ضعف; لأنه نقل عنه يضربها على فرائض الله تعالى ، قاله في " الانتصار " ، وذكر غيره : يملكه ، ولا ينبغي سؤاله لم ضربها ، قاله أحمد; لنهيه عليه السلام عن ذلك ، رواه أبو داود ، وفي " الترغيب " وغيره : والأولى تركه إبقاء للمودة ، والأولى أن لا يتركه عن الصبي لإصلاحه .

                                                                                                                          [ ص: 216 ] ( فإن ادعى كل واحد ظلم صاحبه له ، أسكنهما الحاكم إلى جانب ثقة ، يشرف عليهما ، ويلزمهما الإنصاف ) ; لأن ذلك طريق إلى الإنصاف ، فتعين فعله كالحكم بالحق ، ويلزمه أن يكشف عنه كما يكشف عن عدالة وإفلاس من خبرة باطنة ، قاله في " الترغيب " ( فإن خرجا إلى الشقاق والعداوة بعث الحاكم حكمين حرين مسلمين عدلين ) مكلفين ; لأن هذه شروط العدالة ، سواء قلنا هما حكمان أو وكيلان; لأن الوكيل إذا كان متعلقا بنظر الحاكم ، لم يجز إلا أن يكون عدلا ، كما لو نصب وكيلا لصبي أو مفلس ، ويشترط ذكوريتهما ، ذكره في " المغني " وغيره; لأنه يفتقر إلى الرأي والنظر ، وصريحه يقتضي اشتراط الحرية ، وهو الأصح; لأن العبودية نقص ، وفي " المغني " : الأولى إن كانا وكيلين لم يعتبر; لأن توكيل العبد جائز بخلاف الحكم ، وظاهره : أنه لا يشترط فيه الفقه ، وهو وجه ، وفي " الكافي " : متى كانا حكمين اشترط كونهما فقيهين ، وإن كانا وكيلين جازا أن يكونا عاميين ، وفي " الترغيب " : لا يعتبر اجتهاد ، وهو ظاهر ، وإن مثله ما يفوضه الحاكم من معين جرى كقسمة ( والأولى أن يكونا من أهلهما برضاهما ) وتوكيلهما; لقوله تعالى : وإن خفتم الآية; ولأنهما أشفق ، وأعلم بالحال ، ويجوز أن يكونا من غير أهلهما; لأن القرابة ليست شرطا في الحكم ولا الوكالة ، وظاهره : بأن الحاكم ليس له أن يبعثهما بغير رضاهما - على المذهب; لأنه حق لهما ، فلم يجز لغيرهما التصرف إلا بالوكالة ( فيكشفان عن حالهما ، ويفعلان ما يريانه من جمع وتفريق بينهما بطلاق أو خلع ) فما فعلا [ ص: 217 ] من ذلك لزمهما ، والأصل فيه الآية الكريمة ، لكن لا يصح منهما إبراء; لأنهما وكيلان فيما يتعلق بالإصلاح لا في إسقاط الحقوق ، وإن أبرأه وكيلهما برئ في الخلع فقط ، وإن شرطا ما لا ينافي نكاحا لزم ، وإلا فلا ، كترك قسم ، أو نفقة ولمن رضي العود ( فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا ) على المشهور ، حتى إن القاضي في " الجامع الصغير " و " الشريف " وغيرهما لم يذكروا خلافا; لأنهما رشيدان ، والبضع حق الزوج ، والمال حق الزوجية ، فلم يجبرا على التوكيل منهما كغيرهما من الحقوق ( وعنه : أن الزوج إن وكل في الطلاق بعوض أو غيره ، ووكلت المرأة في بدل العوض برضاهما وإلا ) إن أبيا ذلك ( جعل الحاكم إليهما ذلك ) اختاره ابن هبيرة ، والشيخ تقي الدين ، وهو ظاهر الخرقي ، وحينئذ لهما فعل ما رأياه بغير رضى الزوجين ، وروي عن علي ، وابن عباس ; لأن الله تعالى سماهما حكمين ، وعن عبيدة السلماني أن رجلا وامرأته أتيا عليا ، مع كل منهما فئام من الناس ، فقال علي : ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، فبعثوا حكمين ، ثم قال للحكمين : هل تدريان ما عليكما من الحق ؛ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعلي ، وقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : كذبت حتى ترضى بما رضيت به . رواه أبو بكر ، وهذا يدل على أنه أجبره على ذلك ، ولا يمتنع أن تثبت الولاية على الرشيد عند امتناعه من أداء الحق ، كالمدين الممتنع ، وطلاق الحاكم على المؤلي ( فإن غاب الزوجان أو أحدهما لم ينقطع نظر الحكمين على الأولى ) ; لأن [ ص: 218 ] الوكالة لا تبطل بالغيبة ( وتنقطع على الثانية ) ; لأنه لا يجوز الحكم للغائب وكل منهما محكوم عليه ، وقيل : لا ينقطع عليها ، حكاه في " المستوعب " و " المحرر " ( وإن جنا ) أو أحدهما ( انقطع نظرهما على الأولى ) ; لأن الوكالة تبطل بالجنون ( ولم ينقطع على الثانية ) ; لأن الحاكم يحكم على المجنون ، وقيل : ينقطع عليها أيضا ، حكاه في " المغني " و " المحرر " ; لأنه لا يتحقق معه بقاء الشقاق وحضور المتداعيين ، وهو شرط .




                                                                                                                          الخدمات العلمية