الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            وجدة هي الآن ساحل مكة الأعظم ، وعثمان رضي الله عنه أول من جعلها ساحلا بعد أن شاور الناس في ذلك لما سئل في سنة ست وعشرين من الهجرة وكانت الشعبية ساحل مكة قبل ذلك ، قال القاضي تقي الدين في تاريخه عن الفاكهي بسنده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مكة رباط وجدة جهاد } وعن ابن جريج إني لأرجو أن يكون فضل رباط جدة على سائر المرابط كفضل مكة على سائر البلاد ، وعن ضوء بن فخر قال : كنت جالسا مع عباد بن كثير في المسجد الحرام فقلت : الحمد لله الذي جعلنا في أفضل المجالس وأشرفها ، قال : وأين أنت عن جدة الصلاة فيها بسبعة عشر ألف ألف صلاة ، والدرهم فيها بمائة ألف ، وأعمالها بقدر ذلك ، يغفر للناظر مد بصره ، قال : قلت : رحمك الله مما يلي البحر ، قال : مما يلي البحر ، وعن عبيد الله بن سعيد قال : جاءنا فرقد السنجي بجدة ، فقال : إني رجل أقرأ هذه الكتب ، وإني لأجد [ ص: 323 ] فيها مما أنزل الله عز وجل من كتبه جدة أو جديدة يكون بها قتلى وشهداء لا شهيد يومئذ على وجه الأرض أفضل منهم ، وقال بعض أهل مكة : إن الحبشة جاءت جدة في سنة ثلاث وثمانين في مصدرها فوقعوا بأهل جدة فخرج الناس من مكة إلى جدة وأميرهم عبد الله بن محمد بن إبراهيم ، فخرج الناس غزاة في البحر ، واستعمل عليهم عبد الله المذكور عبد الله بن الحارث المخزومي وإبراهيم جد عبد الله هذا هو أخو السفاح وعبد الله هو ولي مكة للرشيد بن المهدي ، وعلى هذا فسنة ثلاث وثمانين المشار إليها في هذا الخبر سنة ثلاث وثمانين ومائة ، انتهى .

                                                                                                                            فيمكن أن يكون هذا هو النزول الذي ذكره مالك وغيره والله أعلم ، وقد صارت جدة في هذه الأيام رباطا لخوف نزول العدو بها خصوصا في أواخر فصل الشتاء وأوائل فصل الربيع عند وصول مراكب الهند ، فإن العدو - خذلهم الله - توصلوا إلى بلاد الهند في أوائل هذا القرن وأواخر الذي قبله ، ثم لم يزالوا يستولون عليه حتى استولوا على بلاد كثيرة منه ، ثم إنهم خذلهم الله قصدوا إلى جدة في سنة تسعة عشر وتسعمائة ووصلوا إلى ساحل يسمى كمران من سواحل اليمن بالقرب من جدة واشتد ذلك على المسلمين ونزل الناس إلى جدة ، ثم إنهم خذلهم الله رجعوا من كمران بعد أن نزلوا فيها وبنوا بها حصنا لوخم أرسله الله عليهم ، ثم جاءوا في سنة ثلاث وعشرين ونزلوا بساحل جدة في ثمانية وعشرين قطعة بين غراب وبرشة ، وكان ذلك في عشية يوم الجمعة سادس عشر من ربيع الأول ، أو خامس عشرينه ، وحصل للناس وجل عظيم وأيقنوا بالأخذ ، ونزل الناس إلى جدة وأتوا إليها من المدينة المشرفة وغيرها ، لكن أهل المدينة لم يصلوا إلا بعد أن رد الله الذين كفروا بغيظهم ، وكان اجتمع بجدة قبل وصولهم خلق كثير ; لأن الناس سمعوا بهم قبل وصولهم بمدة وحصن الناس جدة بالمدافع

                                                                                                                            ثم إن الله تعالى ألقى في قلوبهم الرعب وحبسهم عن النزول إلى البر بما حبس به الفيل فلم ينزلوا ولم يقاتلوا وأقاموا نحو خمسة أيام ، ثم إنهم رجعوا من غير قتال فتلا الناس هذه الآية كأنها أنزلت في تلك الساعة { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا } ثم إنهم تشتتوا وتفرقوا وأهلكهم الله وأدركهم الأمير سلمان أمير جدة وغنم منهم غرابا وأخذه وأسر من فيه ، واتفق عند رجوعهم من جدة أن تأخر منهم غراب فأراد الأمير سلمان إدراكه فنزل إليه فلما قرب منه رجع عليه منهم نحو عشرة أغربة ، فقصدهم فشق ذلك على المسلمين خوف أن يظفروا به ، فقدر أنهم أطلقوا على الكفرة مدفعا فرجع عليهم وأحرق شراعهم وأحرق بعضهم رأيت منهم نحو الثلاثة محرقين ، فلما رأى الأمير ذلك رجع بسرعة إلى جدة فلم يدركوه ، وشنق الذي أطلق المدفع ، فإنه يقال : إنه فعل ذلك عمدا ; لأنه حديث عهد بالإسلام ، ويقال إن إسلامه في الظاهر فقط والله أعلم . وفي ذلك اليوم رآهم الناس من بعد قرب البر فظنوا أنهم نزلوا إلى البر فخرجوا إليهم وساروا إلى القرب منهم ، فلم ينزل منهم أحد أسأل الله أن يخذلهم ويكف شرهم عن المسلمين آمين ودهلك المذكورة قال عياض : بفتح الدال اسم ملك من ملوك السودان وبه سمي البلد ، وهو جزيرة ساحل البحر من جهة اليمين ، قال وتلك الناحية أقصى تهامة اليمن ، قال عياض : دهلك أقدم من الزمن الذي تكلم فيه مالك ، انتهى .

                                                                                                                            ولم أقف على حقيقة ذلك ما هو والله أعلم ، ثم في سنة ست وعشرين أتوا إلى قرب جدة ورجعوا مخذولين ، ثم في جمادى الأولى من سنة تسع وعشرين أشيع أنهم واصلون إلى جدة ، وتتابع الخبر بذلك إلى رابع جمادى الأخيرة ، فجاء الخبر بأنه مر بعض الجلاب على مواضع قريبة من جدة وسمع مدافع كثيرة فيه فما شك الناس أنهم أعداء الله الكفرة وأنهم واصلون في القرب ، فبادر الناس إلى [ ص: 324 ] النزول إلى جدة وإلى تحصينها بالمدافع والآلات وأقاموا بها مدة ، ثم لم يظهر لهم خبر ولم يأت منهم أحد بعد تلك السنة ولله الحمد ، غير أنه في بعض السنين يذكر أن بعض مراكب منهم في البحر في طريق عدن وسواحل اليمن إلى سنة تسع وأربعين وتسعمائة ، فجاء منهم بعض أغربة في تلك السنة إلى أن وصلوا إلى ساحل جدة ، وأخذوا بعض الجلاب الواصلة إلى جدة من الشام ومن اليمن ، وفيها جماعة من الحجاج فك الله أسرهم ونصر المسلمين وألهمهم رشدهم وخذل الكفرة ورد كيدهم في نحرهم آمين آمين

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية