الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما تقدم من الأمر بالسلم والتهديد على الزلل عنه ما يقتضي لزومه حتما كان كأنه قيل: ما فعل من خوطب بهذه الأوامر وقمع بتلك الزواجر؟ فقيل: أبى أكثرهم، فقيل: إن هذا لعجب! ما الذي صدهم؟ فقيل: تقدير العزيز الذي لا يخالف مراده الحكيم الذي يدق عن الأفكار استدراجه، فقيل: كيف يتصور من العاقل كفر النعمة؟ فبين أن سبب ذلك غالبا الترفع والتعظم والكبر والبطر فرحا بما في اليد وركونا إليه وإعراضا عما خبئ في خزائن الله في حجب القدرة فقال مستأنفا بانيا للمفعول دلالة على ضعف عقولهم بأنهم يغترون بكل مزين زين

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحرالي : من التزيين بما منه الزينة. [ ص: 195 ] وهي بهجة العين التي لا تخلص إلى باطن المزين - انتهى. للذين كفروا حتى بدلوا النعمة الحياة الدنيا لحضورها فألهتهم عن غائب الآخرة.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الحرالي : ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصر طيتها ويشهد جيفتها فلا يغتر بزينتها وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق، وأبهم تعالى المزين في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى: كذلك زينا لكل أمة عملهم

                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكر ذلك بين حالهم عنده فقال: ويسخرون أي والحال أنهم لا يزالون يسخرون أي يوقعون السخرية، وهي استزراء [ ص: 196 ] العقل هزؤا. وقال الحرالي : هي استزراء العقل معنى بمنزلة الاستسخار في الفعل حسا من الذين آمنوا لما هم فيه من الضعف والحاجة لإعراضهم عن الدنيا رغبة فيما عند الله لما وهبهم الله سبحانه وتعالى من العلم الخارق لتلك الحجب الكاشف لأستار المغيب ولأن الله يزوي عنهم الدنيا ويحميهم منها رغبة بهم عنها لكرامتهم عليه كما يحمي الإنسان حبيبه الطعام والشراب إن كان مريضا لكرامته عليه فصار الكفار بهذا التزيين مع ما بوأناهم من الهوان بأنواع التهديد التي لا مرية في قدرتنا عليها مشغولين بلعاعة من العيش فهم راضون بأحوالهم مسرورون بها بحيث إنهم لا ينظرون في عاقبة بل مع الحالة الراهنة فيهزؤون بأهل الحق متعامين عن البينات معرضين عن التهديد تاركين الاستبصار بأحوال بني إسرائيل .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الاستسخار بذوي الأقدار مرا وللنفوس مضرا قال تعالى مبشرا بانقلاب الأمر في دار الخلد مرغبا في التقوى بعد الإيمان: والذين اتقوا أي آمنوا خوفا من الله تعالى، فأخرج المنافقين والذين يمكن دخولهم في الجملة الماضية فوقهم في [ ص: 197 ] الرزق والرتبة والمكان بدليل أفيضوا وآية إني كان لي قرين وكل أمر سار يوم القيامة فهم يضحكون منهم جزاء بما كانوا يفعلون.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان تبدل الأحوال قريبا عندهم من المحال كان كأنه قيل في تقريب ذلك: برزق من عند الله يرزقهموه والله بعز سلطانه وجلال عظمته وباهر كرمه يرزق من يشاء أي في الدنيا وفي الآخرة ولو كان أفقر الناس وأعجزهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإعطاء جزافا لا يكون إلا عن كثرة وبكثرة قال: بغير حساب أي رزقا لا يحد ولا يعد، لأن كل ما دخله الحد فهو محصور متناه يعد، وفي هذه الأمة من لا يحاسبه الله على ما آتاه فهي في [ ص: 198 ] حقه على حقيقتها من هذه الحيثية.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية