الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قوله ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 62 ) )

فإنه يعني به جل ذكره : ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها ، عند معاينتهم ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده .

ذكر من قال عني بقوله : ( من آمن بالله ) ، مؤمنو أهل الكتاب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم :

1112 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) الآية ، قال : نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي . وكان سلمان من جند يسابور ، وكان من أشرافهم ، وكان ابن الملك صديقا له مؤاخيا ، لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه ، وكانا يركبان إلى الصيد جميعا . فبينما هما في الصيد ، إذ رفع لهما بيت من عباء ، فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه [ ص: 151 ] وهو يبكي . فسألاه : ما هذا ؟ فقال : الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما ، فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا حتى أعلمكما . فنزلا إليه ، فقال لهما : هذا كتاب جاء من عند الله ، أمر فيه بطاعته ونهى عن معصيته ، فيه : أن لا تزني ، ولا تسرق ، ولا تأخذ أموال الناس بالباطل . فقص عليهما ما فيه ، وهو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى . فوقع في قلوبهما ، وتابعاه فأسلما . وقال لهما : إن ذبيحة قومكما عليكما حرام .

فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه ، حتى كان عيد للملك ، فجعل طعاما ، ثم جمع الناس والأشراف ، وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس . فأبى الفتى ، وقال : إني عنك مشغول ، فكل أنت وأصحابك . فلما أكثر عليه من الرسل ، أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم . فبعث الملك إلى ابنه فدعاه . وقال : ما أمرك هذا ؟ قال : إنا لا نأكل من ذبائحكم ، إنكم كفار ، ليس تحل ذبائحكم . فقال له الملك : من أمرك بهذا ؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك . فدعا الراهب فقال : ماذا يقول ابني ؟ قال : صدق ابنك . قال له : لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك ، ولكن اخرج من أرضنا . فأجله أجلا . فقال سلمان : فقمنا نبكي عليه ، فقال لهما : إن كنتما صادقين ، فإنا في بيعة بالموصل مع ستين رجلا نعبد الله فيها ، فأتونا فيها .

فخرج الراهب ، وبقي سلمان وابن الملك : فجعل يقول لابن الملك : انطلق بنا ! وابن الملك يقول : نعم . وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز . فلما أبطأ على سلمان ، خرج سلمان حتى أتاهم ، فنزل على صاحبه ، وهو رب البيعة . [ ص: 152 ] وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان ، فكان سلمان : معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه ، فقال له الشيخ : إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق ، وأنا خائف أن تفتر وتعجز ، فارفق بنفسك وخفف عليها . فقال له سلمان : أرأيت الذي تأمرني به ، أهو أفضل أو الذي أصنع ؟ قال : بل الذي تصنع . قال : فخل عني .

ثم إن صاحب البيعة دعاه فقال : أتعلم أن هذه البيعة لي ، وأنا أحق الناس بها ، ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت ! ولكني رجل أضعف عن عبادة هؤلاء ، وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء ، فإن شئت أن تقيم هاهنا فأقم ، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق . قال له سلمان : أي البيعتين أفضل أهلا ؟ قال : هذه . قال سلمان : فأنا أكون في هذه . فأقام سلمان بها وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان ، فكان سلمان يتعبد معهم .

ثم إن الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس ، فقال لسلمان : إن أردت أن تنطلق معي فانطلق ، وإن شئت أن تقيم فأقم . فقال له سلمان : أيهما أفضل ، أنطلق معك أم أقيم ؟ قال : لا بل تنطلق معي . فانطلق معه . فمروا بمقعد على ظهر الطريق ملقى ، فلما رآهما نادى : يا سيد الرهبان ، ارحمني يرحمك الله ! فلم يكلمه ولم ينظر إليه . وانطلقا حتى أتيابيت المقدس ، فقال الشيخ لسلمان : اخرج فاطلب العلم ، فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض . فخرج سلمان يسمع منهم ، فرجع يوما حزينا ، فقال له الشيخ : ما لك يا سلمان ؟ قال : أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم ! فقال له الشيخ : يا سلمان لا تحزن ، فإنه قد بقي نبي ليس من نبي بأفضل تبعا منه ، وهذا زمانه الذي يخرج فيه ، ولا أراني أدركه ، وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه ، وهو [ ص: 153 ] يخرج في أرض العرب فإن أدركته فآمن به واتبعه . فقال له سلمان : فأخبرني عن علامته بشيء . قال : نعم ، هو مختوم في ظهره بخاتم النبوة ، وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة . ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد ، فناداهما فقال : يا سيد الرهبان ، ارحمني يرحمك الله ! فعطف إليه حماره ، فأخذ بيده فرفعه ، فضرب به الأرض ودعا له وقال : قم بإذن الله ! فقام صحيحا يشتد ، فجعل سلمان يتعجب وهو ينظر إليه يشتد . وسار الراهب فتغيب عن سلمان ، ولا يعلم سلمان .

ثم إن سلمان فزع فطلب الراهب . فلقيه رجلان من العرب من كلب ، فسألهما : هل رأيتما الراهب ؟ فأناخ أحدهما راحلته ، قال : نعم راعي الصرمة هذا ! فحمله فانطلق به إلى المدينة .

قال سلمان : فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط . فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما ، فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم . فبينا هو يوما يرعى ، إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه ، فقال : أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي ؟ فقال له سلمان : أقم في الغنم حتى آتيك .

فهبط سلمان إلى المدينة ، فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار حوله . فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم عرف ما يريد ، فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه ، فلما رآه أتاه وكلمه . ثم انطلق فاشترى بدينار ، ببعضه شاة وببعضه خبزا ، ثم أتاه به . فقال : " ما هذا " ؟ قال سلمان : هذه صدقة قال : لا حاجة لي بها ، [ ص: 154 ] فأخرجها فليأكلها المسلمون " . ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما ، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذا ؟ قال : هذه هدية . قال : فاقعد [ فكل ] فقعد فأكلا جميعا منها . فبينا هو يحدثه إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال : كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ، ويشهدون أنك ستبعث نبيا . فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم ، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم : يا سلمان ، هم من أهل النار . فاشتد ذلك على سلمان ، وقد كان قال له سلمان : لو أدركوك صدقوك واتبعوك ، فأنزل الله هذه الآية : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر ) .

فكان إيمان اليهود : أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى ، حتى جاء عيسى . فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى - فلم يدعها ولم يتبع عيسى - كان هالكا . وإيمان النصارى : أنه من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه ، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا
.

1113 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) الآية . قال [ ص: 155 ] سأل سلمان الفارسي النبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم ، قال : لم يموتوا على الإسلام . قال سلمان : فأظلمت علي الأرض ، وذكرت اجتهادهم ، فنزلت هذه الآية : " إن الذين آمنوا والذين هادوا " . فدعا سلمان فقال : نزلت هذه الآية في أصحابك " . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي ، فهو على خير ; ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك " .

وقال ابن عباس بما : -

1114 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين ) إلى قوله : ( ولا هم يحزنون ) . فأنزل الله تعالى بعد هذا : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) [ آل عمران : 85 ]

وهذا الخبر يدل على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا - من اليهود والنصارى والصابئين - على عمله ، في الآخرة الجنة ، ثم نسخ ذلك بقوله : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .

فتأويل الآية إذا على ما ذكرنا عن مجاهد والسدي : إن الذين آمنوا من هذه الأمة ، والذين هادوا ، والنصارى ، والصابئين - من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الآخر - فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

والذي قلنا من التأويل الأول ، أشبه بظاهر التنزيل ، لأن الله جل ثناؤه لم [ ص: 156 ] يخصص - بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان - بعض خلقه دون بعض منهم ، والخبر بقوله : ( من آمن بالله واليوم الآخر ) ، عن جميع ما ذكر في أول الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية