الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الكلام في هذه الآية من المهمات ، فإن الآيات الكثيرة من القرآن ناطقة بإثبات اليد ، فتارة المذكور هو اليد من غير بيان العدد ، قال تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) [الفتح : 10] وتارة بإثبات اليدين لله تعالى : منها هذه الآية ، ومنها قوله تعالى لإبليس الملعون : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) [ص : 75] وتارة بإثبات الأيدي ، قال تعالى : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) [يس : 71] .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : اختلفت الأمة في تفسير يد الله تعالى ، فقالت المجسمة : إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : ( ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون ) [الأعراف : 195] .

                                                                                                                                                                                                                                            وجه الاستدلال أنه تعالى قدح في إلهية الأصنام لأجل أنها ليس لها شيء من هذه الأعضاء ، فلو لم تحصل لله هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إلها ، ولما بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء له ، قالوا : وأيضا اسم اليد موضوع لهذا العضو ، فحمله على شيء آخر ترك للغة ، وإنه لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الكلام في إبطال هذا القول مبني على أنه تعالى ليس بجسم ، والدليل عليه أن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون ، وهما محدثان ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث ; ولأن كل جسم فهو متناه في المقدار ، وكل ما كان متناهيا في المقدار فهو محدث ، ولأن كل جسم فهو مؤلف من الأجزاء ، وكل ما كان كذلك كان قابلا للتركيب والانحلال ، وكل ما كان كذلك افتقر إلى ما يركبه ويؤلفه ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، فثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع كونه تعالى جسما ، فيمتنع أن تكون يده عضوا جسمانيا .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 37 ] أما جمهور الموحدين فلهم في لفظ اليد قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قول من يقول : القرآن لما دل على إثبات اليد لله تعالى آمنا به ، والعقل لما دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض آمنا به ، فأما أن اليد ما هي وما حقيقتها فقد فوضنا معرفتها إلى الله تعالى ، وهذا هو طريقة السلف .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما المتكلمون فقالوا : اليد تذكر في اللغة على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : الجارحة وهو معلوم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : النعمة ، قوله : لفلان عندي يد أشكره عليها .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : القوة قال تعالى : ( أولي الأيدي والأبصار ) [ص : 45] فسروه بذوي القوى والعقول ، وحكى سيبويه أنهم قالوا : لا يد لك بهذا ، والمعنى سلب كمال القدرة .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : الملك ، يقال : هذه الضيعة في يد فلان ، أي في ملكه ، قال تعالى : ( الذي بيده عقدة النكاح ) [البقرة : 237] أي يملك ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : شدة العناية والاختصاص ، قال تعالى : ( لما خلقت بيدي ) [ص : 75] والمراد تخصيص آدم عليه السلام بهذا التشريف ، فإنه تعالى هو الخالق لجميع المخلوقات ، ويقال : يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمن له شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : اليد في حق الله يمتنع أن تكون بمعنى الجارحة ، وأما سائر المعاني فكلها حاصلة ، وههنا قول آخر ، وهو أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله زعم في بعض أقواله أن اليد صفة قائمة بذات الله تعالى ، وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء ، قال : والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه علة لكرامة آدم واصطفائه ، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لامتنع كونه علة للاصطفاء ; لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات ، فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء ، وأكثر العلماء زعموا أن اليد في حق الله تعالى عبارة عن القدرة وعن النعمة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : إن فسرتم اليد في حق الله تعالى بالقدرة فهذا مشكل ; لأن قدرة الله تعالى واحدة ، ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين تارة ، وبإثبات الأيدي أخرى ، وإن فسرتموها بالنعمة فنص القرآن ناطق بإثبات اليدين ، ونعم الله غير محدودة كما قال تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [إبراهيم : 34] .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : إن اخترنا تفسير اليد بالقدرة كان الجواب عن الإشكال المذكور أن القوم جعلوا قولهم : ( يد الله مغلولة ) كناية عن البخل ، فأجيبوا على وفق كلامهم ، فقيل : ( بل يداه مبسوطتان ) أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل ، بل هو جواد على سبيل الكمال ، فإن من أعطى بيده أعطى على أكمل الوجوه ، وأما إن اخترنا تفسير اليد بالنعمة كان الجواب عن الإشكال المذكور من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه نسبة بحسب الجنس ، ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها ، فقيل : نعمتاه نعمة الدين ونعمة الدنيا ، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن ، أو نعمة النفع ونعمة الدفع ، أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المراد بالنسبة المبالغة في وصف النعمة ، ألا ترى أن قولهم : ( لبيك ) معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة ، وكذلك ( سعديك ) معناه مساعدة بعد مساعدة ، وليس المراد منه طاعتين ولا مساعدتين ، فكذلك الآية : المعنى فيها أن النعمة متظاهرة متتابعة ليست كما ادعي من أنها مقبوضة ممتنعة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ينفق كيف يشاء ) أي يرزق ويخلق كيف يشاء ، إن شاء قتر ، وإن شاء وسع ، وقال ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء ) [الشورى : 27] ، وقال ( يبسط الرزق لمن ) [ ص: 38 ] ( يشاء ويقدر ) [الرعد : 26] وقال ( قل اللهم مالك الملك ) [آل عمران : 26] إلى قوله : ( وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير ) [آل عمران : 26] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه الآية رد على المعتزلة ، وذلك لأنهم قالوا : يجب على الله تعالى إعطاء الثواب للمطيع ، ويجب عليه أن لا يعاقبه ، ويجب عليه أن لا يدخل العاصي الجنة ، ويجب عليه عند بعضهم أن يعاقبه ، فهذا المنع والحجر والقيد يجري مجرى الغل ، فهم في الحقيقة قائلون بأن يد الله مغلولة وأما أهل السنة فهم القائلون بأن الملك ملكه ، وليس لأحد عليه استحقاق ، ولا لأحد عليه اعتراض كما قال : ( قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ) [المائدة : 17] فقوله سبحانه : ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) لا يستقيم إلا على هذا المذهب وهذه المقالة ، والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية