الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 240 ] فصل

ولا يجوز الاستيجار على الحج وغيره من الأعمال التي لا يجوز أن تفعل إلا على وجه التقرب ، مثل : الأذان ، والإمامة ، وتعليم القرآن ، والحديث ، والفقه في إحدى الروايتين .

فأما أن يأخذ نفقة يحج بها فيجوز ، هذه طريقة القاضي وأصحابه ، ومن بعدهم ، وقال ابن أبي موسى : في الإجارة على الحج روايتان ، كره أحمد رضي الله عنه في إحداهما أن يأخذ دراهم فيحج بها عن غيره ، قال : إلا أن يكون متبرعا بالحج عن أبيه أو عن أخيه أو عن أمه ، وأجاز ذلك في موضع آخر .

وعلى هذا يكره الأخذ نفقة وأجرة مع الجواز ، وتجب على الكفاية ، وإنما تكون الروايتان في الكراهة فقط .

وأجاز أبو إسحاق بن شاقلا الاستئجار على الحج ، وما يختص نفعه مما [ ص: 241 ] ليس بواجب على الكفاية دون ما يعم ، فقال : لا يجوز أن يؤخذ على الخير أجر ، ويجوز أن يؤخذ على الحج عن الغير أجر ؛ لأن أفعال الخير على ضربين : ما كان فرضا على العامة وغيرهم مثل الأذان ، والصلاة ، وما أشبه ذلك - لا يجوز أن يؤخذ عليه أجر ، وما انفرد به من حج عنه فهو جائز ، مثل فعل البناء لبناء مسجد يجوز أن يأخذ عليه الأجرة ؛ لأنه ليس بواجب على الذي يبني بناء المسجد .

فأما المنصوص عن أحمد فقال في رواية أبي طالب : والذي يحج عن الناس بالأجر ليس عندنا فيه شيء ، وما سمعنا أن أحدا استأجر من حج عن ميت .

وقال في رواية ابن منصور ، وذكر له قول سفيان : أكره أن يستأجر الرجل عن والديه يحج عنهما ، فقال أحمد : نحن نكره هذا إلا أن يعينه فقد [ ص: 242 ] نص على كراهة الأجرة ، ولم يكره النفقة ، وقد نص في مواضع كثيرة على من يأخذ مالا يحج به عن ميت ، وهل يكون له الفاضل أو لا يكون .

وأما الرواية التي أخذ القاضي منها جواز الاستئجار ، فقال في رواية عبد الله ، وقد سأله عمن يكري نفسه للحج ، ويحج ، قال : لا بأس ، وقال في رواية الكوسج : يكري نفسه ، ويحج إلا أن هذا إنما أراد به أن يكري نفسه للخدمة والعمل ، ولهذا قال : يكري نفسه ، ويحج ، وفي مثل هذا جاءت السنة .

وقال في رواية حنبل : لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون الرجل متبرعا بحج عن أبيه عن أمه عن أخته قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي [ ص: 243 ] سأله : إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : نعم ، والذي يأخذ دراهم الحج لا يمشي ، ولا يقتر ، ولا يسرف إنما الحج عمن كان له زاد وراحلة ، وينفق ، ولا يسرف ، ولا يقتر إذا كان ورثته صغارا .

وقال في رواية الجرجرائي . . . وقال في المعضوب : يحج عنه وليه .

ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أذن أن يحج عن المعضوب والميت من يتبرع بالحج عنهم ، أوجب قضاء دينهم ، وبراءة ذمتهم ، وأيضا فإن أخذه الدراهم يحج بها ....

وإنما كرهت الإجارة لما ذكره أحمد من أن ذلك بدعة لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا على عهد السلف ، وقد كان فيهم من يحتاج إلى الحج عنه ، ولم يستأجر أحد أحدا يحج عن الميت ، ولو كان ذلك جائزا حسنا لما أغفلوه ؛ ولأن الله تعالى يقول في كتابه : ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ) والأجير إنما يريد بهذه العبادة حرث الدنيا ، وقال تعالى : [ ص: 244 ] ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ) وقال : ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ) ولأن ذلك أكل للدنيا بالدين ؛ لأنه يبيع عمله الصالح الذي قد قيل فيه : " من حج فلم يرفث ، ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه " ويشتري به ثمنا قليلا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن استؤجر بدراهم يغزو بها : " ليس لك من دنياك وآخرتك إلا هذا " وهذا لأن الإجارة معاوضة على المنفعة يملك بها المستأجر المنفعة كما يملك المشتري الأعيان المبيعة ، [ ص: 245 ] فالأجير للحج يبيع إحرامه ، وطوافه ، وسعيه ، ووقوفه ، ورميه لمن استأجره بالأجر الذي أخذه ؛ ولأن أخذ العوض يبطل القربة المقصودة كمن أعتق عبده على مال يأخذه منه لا يجزئه عن الكفارة ؛ ولأن الحج عمل من شرطه أن يكون قربة لفاعله فلا يجوز الاستئجار عليه كغيره من القرب ، وهذا لأن دخوله في عقد الإجارة يخرجه عن أن يكون قربة ؛ لأنه قد وقع مستحقا للمستأجر ، وإنما كان من شرطه أن يقع قربة ؛ لأن الله تعالى أوجب على العبد أن يعمل مناسكه كلها لله ، ويعبده بذلك ، فلو أنه عملها بعوض من الناس لم تجزه إجماعا كمن صام أو صلى بالكرا ، فإذا عجز عن ذلك بنفسه جعل الله تعالى عمل غيره قائما مقام عمله بنفسه ، وسادا مسده رحمة ولطفا ، فلا بد أن يكون مثله ليحصل به مقصوده ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين في الذمة ، وإنما تبرأ ذمة المدين إذا قضي عنه الدين من جنس ما عليه ، فإذا كان هذا العامل عنه إنما يعمل للدنيا ، ولأجل العوض الذي أخذه لم يكن حجه عبادة لله وحده فلا يكون من جنس ما كان على الأول ، وإنما تقع النيابة المحضة ممن غرضه نفع أخيه المسلم لرحم بينهما أو صداقة أو غير ذلك ، وله قصد في أن يحج بيت الله فيكون حجه لله فيقام مقام حج المستنيب .

والجعالة بمنزلة الإجارة إلا أنها ليست لازمة ، ولا يستحق الجعل حتى يعمل .

[ ص: 246 ] وأما الحج بالنفقة فإنما كرهه أحمد مرة ؛ لأنه قد يكون قصده الإنفاق على نفسه مدة الحج فلا يكون حجه لله كما أن الأجير قصده ملك الأجرة ، وإن كانت شيئا مقدرا مثل وصية ونحوها فقد يكون قصده استفضال شيء لنفسه فيبقى عاملا لأجل الدنيا ، ووجه جواز ذلك أن الحج واجب على المستطيع بماله فلا بد أن يخرج هذا المال في الحج .

التالي السابق


الخدمات العلمية