الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وحسبوا ألا تكون فتنة ) في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو : ( أن لا تكون فتنة ) برفع نون " تكون " والباقون بالنصب ، وذكر الواحدي لهذا تقريرا حسنا ، فقال : الأفعال على ثلاثة أضرب : فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره [ ص: 48 ] نحو : العلم والتيقن والتبين ، فما كان مثل هذا يقع بعده " أن " الخفيفة الناصبة للفعل ، وذلك لأن الثقيلة تدل على ثبات الشيء واستقراره ، فإذا كان العلم يدل على الاستقرار والثبات و " أن " الثقيلة تفيد هذا المعنى حصلت بينهما موافقة ومجانسة ، ومثاله من القرآن قوله تعالى : ( ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) [النور : 25] ، ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ) [التوبة : 104] ، ( ألم يعلم بأن الله يرى ) [العلق : 14] والباء زائدة .

                                                                                                                                                                                                                                            والضرب الثاني : فعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار ، نحو : أطمع وأخاف وأرجو ، فهذا لا يستعمل فيه إلا الخفيفة الناصبة للفعل ، قال تعالى : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي ) [الشعراء : 82] ، ( تخافون أن يتخطفكم الناس ) [الأنفال : 26] ، ( فخشينا أن يرهقهما ) [الكهف : 80] .

                                                                                                                                                                                                                                            والضرب الثالث : فعل يحذو مرة إلى هذا القبيل ومرة أخرى إلى ذلك القبيل نحو : حسب وأخواتها ، فتارة تستعمل بمعنى أطمع وأرجو فيما لا يكون ثابتا ومستقرا ، وتارة بمعنى العلم فيما يكون مستقرا .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : يمكن إجراء الحسبان ههنا بحيث يفيد الثبات والاستقرار ; لأن القوم كانوا جازمين بأنهم لا يقعون بسبب ذلك التكذيب والقتل في الفتنة والعذاب ، ويمكن إجراؤه بحيث لا يفيد هذا الثبات من حيث إنهم كانوا يكذبون ويقتلون بسبب حفظ الجاه والتبع ، فكانوا بقلوبهم عارفين بأن ذلك خطأ ومعصية ، وإذا كان اللفظ محتملا لكل واحد من هذين المعنيين لا جرم ظهر الوجه في صحة كل واحدة من هاتين القراءتين ، فمن رفع قوله : ( أن لا تكون ) كان المعنى : أنه لا تكون ، ثم خففت المشددة وجعلت " لا " عوضا من حذف الضمير ، فلو قلت : علمت أن يقول : بالرفع لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضا من حذف الضمير : نحو السين وسوف وقد ، كقوله ( علم أن سيكون ) [المزمل : 20] ووجه النصب ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال الواحدي : وكلا الوجهين قد جاء به القرآن ، فمثل قراءة من نصب وأوقع بعده الخفيفة قوله : ( أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ) [العنكبوت : 4] ، ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم ) [الجاثية : 21] ، ( الم أحسب الناس أن يتركوا ) [العنكبوت : 1 ، 2] ، ومثل قراءة من رفع ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ) ، [الزخرف : 80] ( أيحسبون أنما نمدهم به ) [المؤمنون : 55] ، فهذه مخففة من الثقيلة ; لأن الناصبة للفعل لا يقع بعدها " لن " ومثل المذهبين في الظن قوله : ( تظن أن يفعل ) [القيامة : 25] ، ( إن ظنا أن يقيما ) [البقرة : 230] ومن الرفع قوله : ( وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن ) [الجن : 5] ، ( وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ) [الجن : 7] " فأن " ههنا الخفيفة من الشديدة كقوله : ( علم أن سيكون ) [المزمل : 20] لأن " أن " الناصبة للفعل لا تجتمع مع " لن " ; لأن " لن " تفيد التأكيد ، و " أن " الناصبة تفيد عدم الثبات كما قررناه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أن باب حسب من الأفعال التي لا بد لها من مفعولين ، إلا أن قوله : ( وحسبوا ألا تكون فتنة ) جملة قامت مقام مفعولي حسب ; لأن معناه : وحسبوا الفتنة غير نازلة بهم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ذكر المفسرون في " الفتنة " وجوها ، وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، ثم عذاب الدنيا أقسام : منها القحط ، ومنها الوباء ، ومنها القتل ، ومنها العداوة ، ومنها البغضاء فيما بينهم ، ومنها الإدبار والنحوسة ، وكل ذلك قد وقع بهم ، وكل واحد من المفسرين حمل الفتنة على واحد من هذه الوجوه .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 49 ] واعلم أن حسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنهم كانوا يعتقدون أن النسخ ممتنع على شرع موسى عليه السلام ، وكانوا يعتقدون أن الواجب عليهم في كل رسول جاء بشرع آخر أنه يجب عليهم تكذيبه وقتله .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنهم وإن اعتقدوا في أنفسهم كونهم مخطئين في ذلك التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وكانوا يعتقدون أن نبوة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية