الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الركن السادس : في السجود وهو في اللغة الانخفاض إلى الأرض ، سجدت النخلة إذا مالت ومنه قوله :


                                                                                                                بجيش يظل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر



                                                                                                                والأصل في وجوبه قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ) وفعله - عليه السلام - وإجماع الأمة ، ونهى في الكتاب عن الإقعاء وإلصاق البطن بالفخذين وإلصاق الضبعين للجنبين ، ووضع الذراعين على الفخذين إلا في النوافل ، وافتراش الذراعين ، وأمر بتوجيه اليدين إلى القبلة ولم يعين موضعهما ، ومساواة النساء للرجال في السجود والجلوس والتشهد والسجود على الأنف والجبهة . وفي الجواهر لا يجب كشف الكعبين ويستحب . أما الإقعاء فاختلف في تفسيره ، قال أبو عبيدة : الجلوس على الأليتين مع نصب الفخذين كالكلب إذا جلس ، وقال أهل الحديث : وضع الأليتين على القدمين ، وزاد الخطابي : ويقعد مستقرا وهو يكسر الهمزة الأولى ممدودا ، وأما حكمه قال الخطابي : كرهه جماعة من الصحابة وأهل العلم ، وأهل المدينة وابن حنبل يستعملونه ، وفي مسلم سأل طاوس ابن عباس عن الإقعاء على القدمين فقال : هي السنة وهو حجة لتفسير الحديثين ، وفي أبي داود قال عليه [ ص: 192 ] السلام لعلي رضي الله عنه : يا علي إني أحب لك ما أحب لنفسي ، وأكره لك ما أكره لنفسي لا تقع بين السجدتين . وأما إلصاق البطن ومجافاة اليدين ففي مسلم أنه - عليه السلام - كان إذا صلى فرج ما بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه ، وفي أبي داود عن البراء بن عازب أنه وصف سجوده - عليه السلام - فوضع واعتمد على رأسه ورفع عجيزته ، وقال : هكذا كان - عليه السلام - يسجد ، وأما الافتراش فلقوله عليه السلام : إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك . وأما توجه اليدين فلأنهما يسجدان فيتوجها ، وأما مكان وضعهما فلم يحدده في الكتاب ، وقال صاحب الطراز : قال محمد بن مسلمة و ( ش ) : حذو منكبيه وهو في الحديث عنه - عليه السلام - وحذو أذنيه عند ابن عمر ، ويروى عنه - عليه السلام - ذلك في الترمذي . قال : والخلاف هاهنا مبني على الخلاف في موضعهما حالة الإحرام فإن الإنسان ينبغي أن تكون يداه حالة سجوده موضعهما حالة إحرامه ، قال : ووضعهما بين المنكب والصدر أمكن للسجود ويبسطهما فإن قبضهما من غير عذر ، قال ابن القاسم : يستغفر الله وهو محمول على أنه مس الأرض ببعض كفه ، أما لو لم يمس إلا ظاهر أصابعه لم يجزه ، وفي البيان في الماسك عنان فرسه ولا يصل بيده الأرض ، [ ص: 193 ] قال مالك : لا بأس به للضرورة وهو أحسن من قوله أيضا : ولا أحب له أن يتعمد ذلك ولا يعتاده . وأما مساواة النساء للرجال ففي النوادر عن مالك : تضع فخذها اليمنى على اليسرى ، وتنضم قدر طاقتها ، ولا تفرج في ركوع ولا سجود ولا جلوس بخلاف الرجل وهو قول ( ش ) ، وجه الأول ما في الحديث : أن النساء شقائق الرجال ، وجه الثاني : أن انفراج المرأة يذكر بحال الجماع فيفسد عليها صلاتها ، ولذلك قيل إنما يؤمرن بذلك إذا صلين مع الرجال ، وأما وضع الكفين مع الوجه في موضع واحد ، فلأنهما يسجدان مع الوجه فيشاركانه بخلاف الركبتين والقدم فإنهما يبقيان في الأرض بعد رفع الوجه ، فلا يضع يديه إلا على ما عليه وجهه ، وأما السجود على الأنف والجبهة ، قال صاحب الطراز : هو قول الكافة فإن اقتصر على أنفه بطلت عند ابن القاسم ، وروى أبو الفرج في الحاوي الإجزاء وإن اقتصر على الجبهة أجزأه عند مالك في النوادر ، واستحب له صاحب الإشراف الإعادة في الوقت ، وبطلت في الوجهين عند ابن حبيب ، وصحت في الوجهين عند ( ح ) والمشهور الإجزاء في الجبهة دون الأنف ، وجه الوجوب فيهما قوله عليه السلام :لا صلاة لمن لم يصب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين . في الدارقطني حجة أبي حنيفة أن الأنف من الوجه فيجزئ كجزء من الجبهة ، وهو مدفوع بالحديث وبالقياس على الذقن ، قال : وظاهر المذهب أن السجود على الوجه واليدين والركبتين والرجلين واجب ، وذكره الطليطلي وهو مذهب ابن حنبل ، وعند ( ح ) ليس بواجب ، [ ص: 194 ] وللشافعي قولان ، وفي الجواهر قال القاضي أبو الحسن : يقوي في نفسي أن السجود على الركبتين وأطراف القدمين سنة في المذهب ، قال : فإن لم يرفع يديه عند رفعه من السجود قيل : تبطل صلاته ، وقيل : لا تبطل .

                                                                                                                فروع سبعة :

                                                                                                                الأول : قال في الكتاب : إذا عجز عن السجود لا يرفع إلى جبهته شيئا ولا ينصب بين يديه شيئا يسجد عليه ، فإن استطاع السجود وإلا أومأ ، فإن رفع شيئا وجهل لا إعادة عليه . وقال ( ش ) : ينصب شيئا يسجد عليه قياسا على الرابية تكون بين يديه فإن وضعه على يديه لم يجزه ; لأنه ساجد على ما هو حامل له ، وإنما يسجد على الأرض أو ما يقوم مقامها . لنا ما في الكتاب عن ابن شهاب أنه - عليه السلام - نهى أن يصلي الرجل على رحل ، وقال : فمن لم يستطع فليوم برأسه إيماء ، قال صاحب الطراز : وأما قوله إن نصب شيئا لا إعادة عليه فهذا له حالتان : أن الصلاة بجبهته وأنفه لم يجزه ، وإن أومأ إليه أجزأه ، قاله في النوادر ، قال : وفيه نظر فإن السجود كان على الأرض ، فوجب أن يكون الإيماء لها ، ألا ترى إلى قول مالك يحسر العمامة عن جبهته في إمائه ، وابن القاسم لاحظ كونه بدلا يعرض فيه عن الأول كالتيمم .

                                                                                                                الثاني : قال في الكتاب : من بجبهته جراحات لا يستطيع بها الأرض إلا بأنفه [ ص: 195 ] فإنه يومئ ، قال صاحب الطراز على قول ابن حبيب : إن السجود لا يجزئ على الجبهة دون الأنف ، وقول ( ح ) إن الأنف يجزئ عن الجبهة لا يجزيه الإيماء ، وقال ( ش ) : يسجد على صدغيه . لنا أن السجود إنما يكون بالجبهة لقوله - عليه السلام - في الصحيحين : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم الجبهة واليدين والركبتين والرجلين . وفي رواية أشار لأنفه ، وقد جعل الشرع الإيماء بدل السجود ، والعدول عن البدل الشرعي لا يصح كما لو سجد على هامته فلو سجد على أنفه ، قال أشهب : يصح ; لأنه أبلغ من الإيماء .

                                                                                                                الثالث : قال صاحب الطراز : لو رفع من الركوع فسقط على جبينه وانقلب على أنفه أجزأه عند ( ح ) خلافا ( ش ) ، ويتخرج في المذهب على قولين قياسا على من قرأ السجدة فأهوى إليها فركع ساهيا ، ففي النوادر : روى جميع الأصحاب الإجزاء إلا ابن القاسم روى الإلغاء .

                                                                                                                الرابع : قال في الكتاب : إذا نهض من بعد السجدتين من الركعة الأولى فينهض ولا يجلس على صدور قدميه . قال صاحب الطراز : هذا له صورتان إحداهما : أنه يثبت ولا يعتمد على يديه وهو مذهب ( ش ، ح ) ، ومكروه عند مالك ; لما روي عنه - عليه السلام - أنه نهض معتمدا على الأرض وهو أقرب للوقار ، فإذا نزل للسجود هل ينزل على يديه أو ركبتيه ؟ قال القاضي عبد الوهاب : ذلك واسع واليدان أحسن ، خلافا ( ش ، ح ) ; لما في أبي داود أنه - عليه السلام - قال : إذا سجد أحدكم فلا [ ص: 196 ] يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه ، والصورة الثانية أن يستقر على صدور قدميه قبل النهوض فكرهه مالك ( ح ) ، خلافا ( ش ) وقد روي الأمران في الحديث ، وما ذكرناه أرجح قياسا على سائر الانتقالات ، ورواية الاستراحة محمولة على العذر فإن فعل ذلك أحد فلا يعيد ولا يسجد ; فإن السجود إنما يكون فيما يبطل الصلاة عمده ، وزعم اللخمي أنه اختلف في السجود له فإذا قام من الجلسة الأولى قام معتمدا على يديه اتفاقا ، وكره ( ش ) تقديم إحدى الرجلين ، وروي عن مالك لا بأس به ، ويروى عن ابن عباس أنها الخطوة الملعونة .

                                                                                                                الخامس : قال في الكتاب : أحب إلي أن يرفع كور العمامة حتى يمس الأرض ببعض جبهته ، قال ابن القاسم : أكرهه فإن فعل فلا إعادة وهو قول ( ح ) وابن حنبل ، وقال ( ش ) : لا يجزيه ، وقال ابن حبيب : إن كان كثيفا أعاد في الوقت ، وإن كان طاقتين لم يعد .

                                                                                                                فائدة : كور العمامة بفتح الكاف هو مجتمع طاقتها على الجبين .

                                                                                                                السادس : كره في الكتاب حمل التراب أو الحصباء من الظل إلى الشمس يسجد عليه ، قال ابن القاسم في العتبية : ويسجد على فضل ثوبه كما فعل ابن عمر - رضي الله عنهما - قال صاحب النكت : إنما كره ذلك في المساجد ; لأنه يؤدي إلى حفرها فيتأذى الماشون فيها .

                                                                                                                [ ص: 197 ] السابع : كره في الكتاب السجود على الطنافس ، والشعر ، والثياب ، والأدم بخلاف الحصر وما تنبته الأرض خلافا ( ش ) لما في ذلك من التواضع ، أو اتباع السنة كان - عليه السلام - وأصحابه يسجدون على التراب والطين ، وفي الصحيح قال - عليه السلام - في ليلة القدر : إني أراني في صبيحتها أسجد في ماء وطين فوكف سقف المسجد تلك الليلة بالمطر ، فخرج - عليه السلام - وعلى وجهه الماء والطين من أثر السجود على الأرض . وقد أنفق على مسجده - عليه السلام - في الزمن القديم مال عظيم ، ولم يفرش فيه بسط ولا غيرها ، وكذلك الكعبة تكسى ولا تفرش ولولا ما ذكرنا ; لتقرب الناس بالفرش كما تقربوا بغيره ، فأما ما تنبت الأرض ; فلأنه - عليه السلام - صلى على الخمرة المعمولة من الجريد وعلى الحصير الذي قد اسود من طول ما لبس ، وليست العلة كونه نبات الأرض فإن ثياب القطن والكتان نبات الأرض فلم تكره الصلاة عليهما ، بل العلة مركبة من نبات الأرض وفعل السنة مما فيه تواضع ، قال صاحب الطراز : فإن فرش خمرة فوق البساط لم يكره وسئل عن المروحة فقال : هي صغيرة إلا أن يضطر إليها ولا يلزم أن يضع رجليه وركبتيه على ما عليه وجهه بخلاف اليدين .

                                                                                                                فائدة :

                                                                                                                من التنبيهات : الطنفسة - بكسر الطاء وفتح الفاء - وهي أفصحهما [ ص: 198 ] وبضمهما معا وكسرهما معا وحكي فتح الطاء وكسر الفاء وهي بساط صغير كالخرقة ، وكل بساط طنفسة ، والأدم بفتح الهمزة والدال : الجلود المدبوغة جمع أديم .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية