الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : فلما قضينا عليه الموت الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كان سليمان يتحوب في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، ويدخل طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها، وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوما يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيأتيها فيسألها : ما اسمك؟ فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا، فيقول لها : لأي شيء نبت؟ فتقول : نبت لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع، فإن كانت نبتت لغرس غرسها، وإن كانت نبتت دواء قالت : نبت دواء لكذا وكذا، فيجعلها لذلك، حتى نبتت شجرة يقال لها : الخرنوبة قال : لأي شيء نبت؟ قالت : نبت لخراب هذا المسجد . فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت الذي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب، فقام يصلي متكئا على عصاه، فمات ولا تعلم به الشياطين في ذلك، وهم يعملون له يخافون أن يخرج فيعاقبهم، وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كوى من بين يديه ومن خلفه، وكان الشيطان المريد الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب؟ فيدخل حتى يخرج من [ ص: 180 ] الجانب الآخر فدخل شيطان من أولئك فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق فمر ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع صوته، ثم عاد فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق، ونظر إلى سليمان قد سقط ميتا، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه فوجدوا منسأته -وهي العصا بلسان الحبشة- قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوما وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة، وهي في قراءة ابن مسعود : (فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا) . فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبون، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان، ولما لبثوا في العذاب سنة يعملون له، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكننا سننقل إليك الطين والماء . فهم ينقلون ذلك إليها حيث كانت ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب، فهو مما يأتيها الشياطين شكرا لها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 181 ] وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : دابة الأرض : الأرضة، منسأته عصاه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لبث سليمان على عصاه حولا بعدما مات، ثم خر على رأس الحول، فأخذت الجن عصا مثل عصاه، ودابة مثل دابته، فأرسلوها عليها فأكلتها في سنة، وكان ابن عباس يقرأ : (فلما خر تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سنة) . قال سفيان : وفي قراءة ابن مسعود : (وهم يدأبون له حولا) .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والطبراني ، وابن السني في "الطب النبوي"، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها : ما اسمك؟ فتقول : كذا وكذا، فيقول : لم أنت؟ فتقول : لكذا وكذا . فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، فصلى ذات يوم، فإذا شجرة نابتة [ ص: 182 ] بين يديه، فقال : لها : ما اسمك؟ قالت : الخروب، قال : لأي شيء أنت؟ قالت : لخراب هذا البيت . فقال سليمان : اللهم عم عن الجن موتي، حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب . فهيأ عصا فتوكأ عليها، وقبضه الله وهو متكئ فمكث حولا ميتا والجن تعمل، فأكلتها الأرضة فسقطت، فعلموا عند ذلك بموته، (فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين)-، وكان ابن عباس يقرأها كذلك- فشكرت الجن الأرضة، فأينما كانت يأتونها بالماء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجه البزار ، والحاكم وصححه، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، موقوفا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعا : يقول الله إني تفضلت على عبادي بثلاث، ألقيت الدابة على الحبة، ولولا ذلك لكنزتها الملوك كما يكنزون الذهب والفضة، وألقيت النتن على الجسد، ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه، واستلبت الحزن، ولولا ذلك لذهب النسل .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 183 ] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : كانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد، فابتلوا بموت سليمان، فمات فلبث سنة على عصاه وهم لا يشعرون بموته، وهم مسخرون تلك السنة، ويعملون دائبين، فلما خر تبينت الجن ، وفي بعض القراءة : (تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) . وقد لبثوا يدأبون ويعملون له حولا بعد موته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد من طريق قيس بن سعد، عن ابن عباس قال : كانت الإنس تقول في زمان سليمان : إن الجن تعلم الغيب، فلما مات سليمان مكث قائما على عصاه ميتا حولا، والجن تعمل بقيامه : (فلما خر تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) . كان ابن عباس يقرأها كذلك، قال قيس بن سعد : وهي في قراءة أبي بن كعب كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : قال سليمان لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني . فأتاه فقال : يا سليمان قد أمرت بك . قد بقيت لك سويعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلي، فاتكأ على عصاه فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكئ على عصاه، ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت . قال : والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي، فبعث الله دابة الأرض؛ دابة تأكل العيدان يقال لها : القادح . فدخلت فيها فأكلتها حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر ميتا، فلما [ ص: 184 ] رأت ذلك الجن انفضوا وذهبوا، فذلك قوله : ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن عكرمة قال : لما رد الله الخاتم إليه لم يصل صلاة الصبح يوما إلا نظر وراءه فإذا هو بشجرة خضراء تهتز، فيقول : يا شجرة، أما يأكلك جن ولا إنس ولا طير ولا هوام ولا بهائم؟ فتقول : إني لم أجعل رزقا لشيء، ولكن دواء من كذا، ودواء من كذا، فقام الجن والإنس يقطعونها ويجعلونها في الدواء، فصلى الصبح ذات يوم والتفت، فإذا هو بشجرة وراءه قال : من أنت يا شجرة؟ قالت : أنا الخرنوبة . قال : والله ما الخرنوبة إلا خراب بيت المقدس، والله ما يخرب ما كنت حيا، ولكني أموت . فدعا بحنوط، فتحنط وتكفن، ثم جلس على كرسيه، ثم جمع كفيه على طرف عصاه، ثم جعلها تحت ذقنه ومات، فمكث الجن يعملون سنة يحسبون أنه حي، وكانت لا ترفع أبصارها إليه، وبعث الله الأرضة فأكلت طرف العصا فخر منكبا على وجهه، فعلمت الجن أنه قد مات، فذلك قوله : تبينت الجن ، ولقد كانت الجن تعلم أنها لا تعلم الغيب، ولكن في القراءة الأولى : (تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 185 ] وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : بلغت نصف العصا، فتركوها في النصف الباقي، فأكلتها في حول، فقالوا : مات عام أول .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال : مكث سليمان بن داود حولا على عصاه متكئا حتى أكلتها الأرضة فخر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : إلا دابة الأرض . قال : الأرضة، تأكل منسأته . قال : عصاه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : الأرضة أكلت عصاه حتى خر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير : تأكل منسأته قال : العصا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن عكرمة ، أنه سئل عن المنسأة، قال : هي العصا . وأنشد فيها شعرا قاله عبد المطلب :


                                                                                                                                                                                                                                      أمن أجل حبل لا أبا لك صدته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا



                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن السدي قال : المنسأة العصا بلسان الحبشة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية