الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2098 - مسألة : هل في قتل العمد كفارة أم لا ؟ قال علي : اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : على قاتل العمد كفارة ، كما هي على قاتل الخطأ ، وهو قول الحكم بن عتيبة ، والشافعي .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك ، والليث : يعتق رقبة أو يصوم شهرين ، ويتقرب إلى الله تعالى بما أمكنه من الخير .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ، وأبو سليمان ، وأصحابنا : لا كفارة في ذلك ، ولكن يستغفر الله تعالى ، ويتوب إليه ، ويكثر من فعل الخير .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك ليلوح الحق من ذلك ؟ فنظرنا في قول مالك ، والليث ، فوجدناهما لا يخلوان من أن يكونا رأيا ذلك واجبا أم لا ؟ فإن كانا لم يرياه واجبا ، فأي معنى لتخصيصهما عتق رقبة ، أو صوم شهرين دون سائر وجوه البر من الجهاد ، وذكر الله تعالى ، والصدقة . [ ص: 174 ]

                                                                                                                                                                                          وإن كانا رأياه واجبا ، فقد خيراه بين العتق ، والصوم ، وليست هذه صفة الكفارة التي أمر الله تعالى بها في القتل الخطأ ، لأن تلك مرتبة ، وهم قد خيروه ، فسقط هذا القول - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيمن أوجب الكفارة في ذلك ؟ فوجدناهم يحتجون : بما ثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري نا أبي نا ابن المبارك نا إبراهيم بن علية عن الغريف بن عياش عن واثلة بن الأسقع قال { أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبا لنا قد أوجب ؟ قال : فليعتق رقبة يفك الله بكل عضو منها عضوا منه من النار } .

                                                                                                                                                                                          قال أحمد بن شعيب : وأرنا الربيع بن سليمان - المؤذن صاحب الشافعي - نا عبد الله بن يوسف نا عبد الله بن سالم حدثني إبراهيم بن أبي علية قال : كنت جالسا بأريحاء فمر بي واثلة بن الأسقع متوكئا على عبد الله بن الديلمي فأجلسه ، ثم جاء إلي فقال : عجبت مما حدثني الشيخ - يعني واثلة بن الأسقع - قلت : ما حدثك ؟ قال : { كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأتاه نفر من بني سليم ، فقالوا : إن صاحبا لنا قد أوجب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار } .

                                                                                                                                                                                          وبما حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت الرقي نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا الحسن بن مهدي نا عبد الرزاق نا إسرائيل عن النعمان عن عمر بن الخطاب قال : { جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني وأدت بنات لي في الجاهلية ؟ فقال اعتق عن كل واحدة منهن رقبة ؟ قال : يا رسول الله إني صاحب إبل ؟ قال : فانحر عن كل واحدة منهن بدنة } . [ ص: 175 ]

                                                                                                                                                                                          وقالوا : لما أوجب الله تعالى على قاتل الخطأ - ولا ذنب له - كفارة في ذلك ، كان العامد المذنب أحق بالكفارة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما حديث واثلة - فلا يصح ، لأن الغريف مجهول ، وقد ظن قوم أنه عبد الله بن فيروز الديلمي - وهذا خطأ ، لأن ابن المبارك نسب الغريف عن ابن علية فقال ابن عياش : ولم يكن في بني عبد الله بن فيروز أحد يسمى عياشا - وابن المبارك أوثق وأضبط من عبد الله بن سالم .

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح هذا الخبر لما كانت لهم فيه حجة ، لأنه ليس فيه أنه كان قتل عمدا ، فإذ ليس فيه ذلك : فلا شبهة لهم في هذا الحديث أصلا .

                                                                                                                                                                                          وإنما فيه - أن صاحبا لنا قد أوجب ؟ ولا يعرف في اللغة أن " أوجب " بمعنى قتل عمدا ، فصار هذا التأويل كذبا مجردا ، ودعوى على اللغة لا تعرف .

                                                                                                                                                                                          وقد يكون معنى " أوجب " أي أوجب لنفسه النار بكثرة معاصيه ، ويكون معنى " قد أوجب " أي قد حضرت منيته فقد يقال : هذا أوجب فلان ؟ بمعنى مات - فبطل قولهم .

                                                                                                                                                                                          وقد قال قوم : إن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر عن ذكر " الرقبة " أن تكون مؤمنة ، وعن تعويض الشهرين : دليل على بطلان قول من أوجب الكفارة في قتل العمد .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما خبر عمر بن الخطاب ، فلا يصح ، لأن في طريقه إسرائيل - وهو ليس بالقوي - وسماك بن حرب - وكان يقبل التلقين - .

                                                                                                                                                                                          وأيضا - فكان يكون في إيجاب ذلك على كل من قتل نفسا في الجاهلية وهو كافر حربي كما كان قيس بن عاصم المأمور بهذه الكفارة في هذا الحديث وهم لا يقولون بهذا أصلا - فبطل تعلقهم بهذا الخبر .

                                                                                                                                                                                          وأما الشافعي - فإنه وإن كان أطرد منهم للخطأ في قولهم ، فقد أخطأ معهم فيه أيضا ، لأن من أصلهم أن لا يقاس الشيء إلا على نظيره ، وما يشبهه لا على ضده ، وما لا يشبهه ، فالخطأ هاهنا في قياس العمد على الخطأ وهو ضده .

                                                                                                                                                                                          وأخطئوا - أيضا - كلهم معه في قياسهم المخطئ في الصيد يقتله محرما على [ ص: 176 ] المحرم يقتله عامدا ، فقاسوا - أيضا - هنالك الخطأ على العمد ، وهو ضده .

                                                                                                                                                                                          وأخطئوا - أيضا - معه كلهم في قياسهم ترك الصلاة عمدا على تركها نسيانا .

                                                                                                                                                                                          وقد شاركهما الشافعي - أيضا - في خطأ آخر في هذا الباب ، وهو قولهم كلهم : أن لا يقاس متعمد التسليم من الصلاة قبل إتمامها في إيجاب السجدتين عليه على المسلم من الصلاة قبل إتمامها نسيانا فهذه صفة القياس ، وصفة أقوالهم في قياساتهم كلها : يهدم بعضها بعضا ، وينقض بعضها بعضا ؟ قال أبو محمد : فإذ لا حجة في إيجاب الكفارة على قاتل العمد ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، فإن الله تعالى يقول { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ، وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

                                                                                                                                                                                          فصح أن الدين كله قد كمل وبينه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          وبيقين ندري أنه لو كان في قتل العمد كفارة محدودة لبينها الله تعالى ، كما بين لنا الكفارة في قتل الخطأ .

                                                                                                                                                                                          وكما بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجود القود ، أو الدية ، أو المفاداة ، في ذلك .

                                                                                                                                                                                          فإذ لم يخبرنا الله تعالى بشيء من ذلك ، ولا أوجبه هو ، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فنحن نشهد بشهادة الله تعالى : أنه ما أراد قط كفارة محدودة في ذلك ، ولكن الله تعالى يقول { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } إلى قوله تعالى { وكفى بنا حاسبين } ، وقال تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } ، فمن ابتلي بقتل مسلم عمدا فقد ابتلي بأكبر الكبائر بعد الشرك ، وترك الصلاة : ففرض عليه أن يسعى في خلاص نفسه من النار فليكثر من فعل الخير : العتق ، والصدقة ، والجهاد ، والحج ، والصوم والصلاة ، وذكر الله تعالى - فلعله يأتي من ذلك بمقدار يوازي إساءته في القتل ، فيسقط عنه . [ ص: 177 ] ونسأل الله العافية .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية