الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإن قلتم: إن التسلسل في الآثار جائز ـ وهو قولكم ـ بطل استدلالكم بهذه الحجة على قدم شيء من العالم، فإنها لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم، وإنما تدل على وجود دوام كون الرب فاعلا.

فيقال لكم حينئذ: لم لا يجوز أن تكون الأفلاك، أو كل ما يقدر موجودا في العالم، أو كل ما يحدثه الله: موقوفا على حادث بعد حادث، ويكون مجموع العالم الموجود الآن كالشخص الواحد من الأشخاص الحادثة؟

فتبين أن احتجاجكم على مطلوبكم باطل، سواء كان تسلسل الحوادث جائزا أو لم يكن، بل إذا لم يكن جائزا بطلت الحجة، وبطل المذهب المعروف عندكم، [ ص: 353 ] وهو أن حركات الأفلاك أزلية، فإن هذا إنما يصح إذا كان تسلسل الحوادث جائزا، فإذا كان تسلسلها ممتنعا لزم أن يكون لحركة الفلك أول، وإن كان تسلسل الحوادث جائزا، لم يكن في ذلك دلالة على قدم شيء من العالم، لجواز أن يكون حدوث الأفلاك موقوفا على حوادث قبله، وهلم جرا.

فإن قلتم: هذا يستلزم قيام الحوادث المتسلسلة بالقديم.

كان الجواب من وجوه: أحدها: أن هذا هو قولكم، وليس هذا ممتنعا عندكم، فإن الفلك قديم أزلي عندكم، مع أنه جسم تقوم به الحوادث.

الثاني: أنه يجوز أن تكون تلك الحوادث ـ إذا امتنع قيامها بواجب الوجود ـ قائمة بمحدث بعد محدث، فإن كان صدور هذه الحوادث المتسلسلة عن الواجب القديم ممكنا بطلت حجتكم، وإن كان ممتنعا بطل مذهبكم وحجتكم أيضا، فإن قولكم: إن الحوادث الفلكية المتسلسلة صادرة عن قديم أزلي.

الثالث: أنا نتكلم على تقدير إمكان تسلسل الحوادث.

وعلى هذا التقدير فلا بد من التزام أحد أمرين: إما قيام الحوادث بالواجب وإما تسلسل الحوادث عنه بدون قيام حادث به.

الرابع أن يقال: قيام الحوادث بالقديم: إما أن يكون ممتنعا، وإما أن يكون ممكنا، فإن كان ممتنعا لزم حدوث الأفلاك، وهو المطلوب، وإن كان جائزا بطلت هذه الحجة. [ ص: 354 ]

الخامس: أن من قال من أهل الكلام بأن: القديم لا تحله الحوادث إنما قاله لأن تسلسل الحوادث في المحل يستلزم حدوثه عندهم، فإن كان قولهم هذا صحيحا لزم حدوث الأفلاك والنفوس وكل ما يقوم به حوادث متسلسلة، وهو يستلزم بطلان حجتكم، لأنه حينئذ يمكن صدور العالم المحدث عن القديم، بل هذا يبطل مذهبكم؛ لأنه إذا كان ما قام به الحوادث حادثا امتنع قيام الحوادث بالقديم سواء كان واجبا أو ممكنا، بل إذا كان تسلسل الحوادث ممتنعا لزم حدوث ما يذكرونه من العقول وغيرها.

وإن لم يقم به حادث، فإنه على هذا التقدير يجب أن يكون للحوادث أول، فإذا كان للنفوس أول: وجب أن يكون للعقول أول؛ لأن وجود العقول يستلزم وجود النفوس، فيمتنع كالعكس، وحينئذ فلا يكون في العالم شيء قديم قام به حادث، بل لا يكون في العالم قديم، وإن لم تقم به الحوادث، بل إما أن يقال: حدثت فيه الحوادث بعد أن لم تكن، أو ما زال يحدث شيء بعد شيء، والأول يستلزم حدوث الحادث بلا سبب حادث، وهذا باطل، كما ذكرتموه في الحجة، لأنه يستلزم الترجيح بلا مرجح.

والثاني: يمتنع أن يكون في الممكنات شيء قديم، وهو نقيض مذهبكم.

التالي السابق


الخدمات العلمية