الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد

                          قال الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - ما مثاله مفصلا : كان الكلام إلى هنا في طلب بذل المال والنفس في سبيل الله - تعالى - ، وقد ضرب له مثل الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فماتوا بجبنهم ولم تغن عنهم كثرتهم ، ثم أحياهم الله - تعالى - ; أي أحيا أمتهم بنفر منهم غيروا ما بأنفسهم ، ومثل الملأ من بني إسرائيل بعد أن غلب الفلسطينيون أمتهم على أمرها وأخرجوها من ديارها وأبنائها ، ثم نصرها الله - تعالى - بفئة قليلة مؤمنة بلقائه ، صابرة في بلائه ، بعد هذا أراد - سبحانه - أن يقوي النفوس على القيام بذلك ، فذكر الأنبياء المرسلين الذين كانوا أقطاب الهداية ، ومحل التوفيق منه والعناية ، الذين بين الدليل في آخر السياق الماضي على أن المخاطب بهذا القرآن الذي فيه سيرتهم منهم ، وكان قد ذكر قبل ذلك داود وما آتاه الله من الملك والنبوة ، ذكرهم مبينا تفضيل بعضهم على بعض ، وخص بالذكر أو الوصف من بقي لهم أتباع ، وذكر ما كان من أمر أتباعهم من بعدهم في الاختلاف والاقتتال ، ثم عاد إلى الموضوع الأول وهو الإنفاق وبذل المال في سبيل الله ، لكن بأسلوب آخر كما ترى في الآية التي تلي هذه الآية . قال تعالى :

                          [ ص: 4 ] تلك الرسل أي المشار إليهم بقوله : وإنك لمن المرسلين في آخر الآية السابقة ، ومنهم داود الذي ذكر في الآية التي قبلها ، وهذا أظهر من قولهم : المراد بالرسل من ذكروا في هذه السورة ، أو من قص الله على النبي قبل هذا من أنبائهم ، أو المراد جماعة الرسل فضلنا بعضهم على بعض مع استوائهم في اختيار الله - تعالى - إياهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة . والتصريح بهذا التفضيل وذكر بعض المفضلين يشبه أن يكون استدراكا مع ما ذكر في الآيات السابقة من إيتائه - تعالى - داود الملك والحكمة وتعليمه مما يشاء ، فهو يقول : إنهم كلهم رسل الله ، فهم حقيقون بأن يتبعوا ويقتدى بهداهم وإن امتاز بعضهم على بعض بما شاء الله من الخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم ، وقد بين هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال : منهم من كلم الله بصيغة الالتفات عن الضمير إلى التعبير بالظاهر لتفخيم شأن هذه المنقبة ، والغرض من هذا الالتفات إلفات الأذهان إلى هذه المنقبة تفخيما لها وتعظيما لشأنها ، وهذا التكليم كان من الله - تعالى - لسيدنا موسى - عليه الصلاة والسلام - كما قال - تعالى - في سورة النساء : وكلم الله موسى تكليما [ 4 : 164 ] وفي سورة الأعراف ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه [ 7 : 143 ] وفي الآية التي بعدها : قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [ 7 : 144 ] فهذه الآيات تدل على أن موسى قد خص بتكليم لم يكن لكل نبي مرسل ، وإن كان وحي الله - تعالى - عاما لكل الرسل ، ويطلق عليه كلام الله - تعالى - ، وقد قال - تعالى - في سورة الشورى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم [ 42 : 51 ] فجعل كلامه لرسله ثلاثة أنواع ، والظاهر أن تكليم موسى كان من النوع الثاني في الآية ، وكلها تسمى وحي الله وكلام الله . وقال بعضهم : إن هذا النوع من التكليم كان لنبينا - عليه الصلاة والسلام - في تجلي ليلة المعراج ، فهو المراد بمن كلم الله هنا ، والجمهور على القول الأول ، وإن كان لفظ " من " يتناول أكثر من واحد .

                          أقول : وقد خاض علماء العقائد في مسألة الكلام الإلهي والتكليم وتبعهم المفسرون ، فقال بعضهم كالمعتزلة : إن التكليم فعل من أفعال الله - تعالى - كالتعليم والكلام ما يكون به . وقال الجمهور : إن كلام الله - تعالى - صفة من صفاته تتعلق بجميع ما في علمه ، وتكليمه الرسل عبارة عن إعلامهم بما شاء من علمه ، وما به الإعلام هو كلام الله ، وهو كما قال الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد : شأن من شئونه قديم بقدمه ، أي : إنه - تعالى - متصف في الأزل بالكلام ، أي بالصفة التي يكون بها التكليم متى شاء ، كما أنه متصف في الأزل بالقدرة التي بها يكون الخلق والتقدير متى شاء ، هذا أوضح ما يبين به مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله - تعالى - النفسي ، وهو أن له صفة ذاتية ، بها يعلم من يشاء من عباده بما شاء من علمه [ ص: 5 ] متى شاء ، وهذا الإعلام هو التكليم والوحي ، ولا يجوز لنا البحث عن كيفية كلامه القديم ، ولا عن كيفية تكليمه رسله وإيحائه إليهم .

                          قال الأستاذ الإمام في الدرس : إن هذا الكلام مما لا يمكن أن يعرفه إلا النبي المكلم ، فلا ينبغي لنا أن نبحث فيه ونحاول الوقوف على كنهه ، حتى إن النبي المكلم نفسه لا يستطيع أن يفهمه لغيره ; لأنه ليس له عبارة تدل عليه : يعني أن ما كان للرسل - عليهم السلام - من تكليم الله وما خصهم به من وحيه هو من قبيل الوجدان والشعور النفسي ، كالشعور بالسرور واللذة والألم ، فلا يمكن التعبير عن حقيقته ، وليس هو من قبيل التصورات والخواطر ، ولا نزيد على هذا البيان في هذا الكلام ، فإنه من مزال الأقدام والأقلام ، فنحن نؤمن بكلام الله - تعالى - ووحيه مع تنزيهه في ذاته وصفاته عن مشابهة خلقه ، فإن وقع في كلامنا ما يوهم خلاف هذه العقيدة السلفية فهو من عثرات القلم الضعيف في البيان ، لا من شذوذ عن صراط الله المستقيم في الإيمان .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية