الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ومن الليل قيل: أي وعليك بعض الليل، وظاهره أنه من باب الإغراء كما نقل عن الزجاج وأبي البقاء في قوله تعالى: وقرآن الفجر وتعقبه أبو حيان بأن المغرى به لا يكون حرفا، ولا يجدي نفعا كون من للتبعيض لأن ذلك لا يجعلها اسما، ألا ترى إجماع النحاة على أن واو مع حرف وإن قدرت بمع، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون القائل بذلك قائلا باسمية «من» في مثل ذلك كما قالوا باسمية الكاف في نحو: فجعلهم كعصف مأكول وعن في نحو «من عن يميني تارة وشمالي» وعلى نحو من عليه، وكذا القائل بأن ذلك نصب على [ ص: 138 ] الظرفية بمقدر؛ أي: وقم بعض الليل، واختار الحوفي أن «من» متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام أي: واسهر من الليل فالفاء في قوله تعالى: فتهجد به إما عاطفة على ذلك المقدر أو مفسرة بناء على أنه من أسلوب: وإياي فارهبون وفي الكشف أن الإغراء هو الظاهر هاهنا بخلافه فيما تقدم؛ لأن النصب على التفسير والصلات مختلفة لا يتضح كل الاتضاح، ومعنى الإغراء من السابق واللاحق تتعاضد الأدلة عليه، وفيه منع ظاهر، والتهجد على ما نقل عن الليث الاستيقاظ من النوم للصلاة ويطلق على نفس الصلاة بعد القيام من النوم ليلا يقال: تهجد أي صلى في الليل بعد الاستيقاظ وكذا هجد وهذا يقتضي سابقية النوم في تحقق التهجد فلو لم ينم وصلى ما شاء لا يقال له تهجد، وهو المروي عن مجاهد والأسود وعلقمة وغيرهم، وقال المبرد: هو السهر للصلاة أو لذكر الله تعالى، وقيل: السهر للطاعة وظاهره عدم اشتراط سابقية النوم في تحققه، والمشهور أن ذلك يسمى قياما وما بعد النوم يسمى تهجدا، وأغرب الحجاج بن عمرو المازني فإنه روي عنه أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد؛ إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: إن تخلل النوم بين الصلوات جاء في صحيح مسلم من رواية حصين عن حبيب بن أبي ثابت، وهي مما استدركها الدارقطني على مسلم لاضطرابها؛ فقد قال: وروي عنه على سبعة أوجه وخالف فيه الجمهور؛ يعني الخبر الذي فيه تخلل النوم، والكثير من الروايات ليس فيه ذلك فليحفظ. واشترط أن لا تكون الصلاة إحدى الخمس فلو نام عن العشاء ثم قام فصلاها لا يسمى متهجدا ولا ضرر في كونها واجبة كأن نام عن الوتر ثم قام إليها، وفي القاموس: الهجود النوم كالتهجد، وتهجد استيقظ كهجد ضد، وقال ابن الأعرابي: هجد الرجل صلى من الليل وهجد نام بالليل، وقال أبو عبيدة: الهاجد النائم والمصلي، وفي مجمع البيان أنه يقال: هجدته إذا أنمته، وعليه قول لبيد:


                                                                                                                                                                                                                                      قلت: هجدنا فقال طال السرى



                                                                                                                                                                                                                                      ونقل عن ابن برزخ أنه يقال: هجدته إذا أيقظته، ومصدر هذا التهجيد، وصرح في القاموس بأنه من الأضداد أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر بعضهم أن المعروف في كلام العرب كون الهجود بمعنى النوم، وفسر التهجد بترك الهجود؛ أي النوم على أن التفعل للسلب كالتأثم والتحنث وهو مأخذ من فسره بالاستيقاظ، ويجوز أن يقال: إن التفعل للتكلف أي تكلف الهجود بمعنى اليقظة، ورجح هذا بأن مجيء التفعل للتكلف أكثر من مجيئه للسلب.

                                                                                                                                                                                                                                      وعورض بأن استعمال الهجود في اليقظة مختلف في ثبوته وإن ثبت فهو أقل من استعماله في النوم، والضمير المجرور في «به» للقرآن من حيث هو لا بقيد إضافته إلى الفجر، واستدل بذلك على تطويل القراءة في صلاة التهجد، وقد صرح العلماء بندب ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة: «صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى فقلت: يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا إذا مر بآية تسبيح سبح». الخبر.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن يكون للبعض المفهوم من قوله تعالى: ومن الليل والباء للظرفية؛ أي: فتهجد في ذلك البعض. وقال ابن عطية: هو عائد على الوقت المقدر في النظم الكريم؛ أي: قم وقتا من الليل فتهجد فيه نافلة لك فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة بك دون الأمة، ولعله الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة [ ص: 139 ] الفجر مع تقدم وقتها على وقتها، واستدل به على أن ما أمر به صلى الله عليه وسلم فأمته مأمورون به أيضا إلا أن يدل دليل على الاختصاص كما هنا، ويدل على أن المراد ما ذكر ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في ذلك؛ يعني خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم: أمر بقيام الليل وكتب عليه لكن صحح النون أنه نسخ عنه عليه الصلاة والسلام فرضية التهجد، ونقله أبو حامد من الشافعية وقالوا: إنه الصحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الخطاب في «لك» له صلى الله عليه وسلم، والمراد هو وأمته على حد الخطاب في أقم الصلاة فيما سبق؛ أي: فريضة زائدة على الصلوات الخمس لنفعكم، ففيه دليل على فرضية التهجد عليه عليه الصلاة والسلام وعلى أمته، لكن نسخ ذلك في حق الأمة وبقي في حقه عليه الصلاة والسلام بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: نسخ قيام الليل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ونسخ في حقه صلى الله عليه وسلم أيضا بناء على الصحيح، وهو خلاف الظاهر جدا، ويجوز أن يراد بالنافلة الفضيلة؛ إما لأنه عليه الصلاة والسلام فضل على أمته بوجوبها وإن نسخ بعد، أو لأنها فضيلة له صلى الله عليه وسلم وزيادة في درجاته وليست بالنسبة إليه مكفرة للذنوب «وسادة» للخلل الواقع في الفرائض كما أنها وسائر النوافل بالنسبة إلى الأمة كذلك لكونه عليه الصلاة والسلام قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفرائضه وسائر تعبداته واقعة على الوجه الأكمل.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج هذا الأخير البيهقي في الدلائل وابن جرير وغيرهما عن مجاهد، وابن أبي حاتم عن قتادة، وابن المنذر عن الحسن، واستحسنه الإمام، وضعفه الطبري، وجوز ابن عطية عموم الخطاب كما سمعت آنفا إلا أنه حمل «نافلة» على «تطوعا» وليس بشيء أيضا، وربما يختلج في بعض الأذهان بناء على ما تقدم عن أبي البقاء في قوله تعالى: سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا من أنه بتقدير: اتبع سنة؛ كما قال سبحانه: فبهداهم اقتده احتمال أن يكون قوله تعالى: أقم الصلاة إلخ بيانا للاتباع المأمور به، وهو متضمن للأمر بالصلوات الخمس، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يصلونها على ما يدل قول جبريل عليه السلام في خبر تعليمه عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة بعد صلاته الخمس: هذا وقت الأنبياء من قبلك فإنه ظاهر في أنهم عليهم السلام كانوا يصلونها، غاية ما في الباب أنه على القول بأنها لم تجتمع لغير نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الصحيح يحتمل أن المراد أنه وقتهم على الإجمال وإن اختص من اختص منهم بوقت، حيث ورد أن الصبح لآدم، والظهر لداود، وفي رواية لإبراهيم، والعصر لسليمان، وفي رواية ليونس، والمغرب ليعقوب، وفي رواية لعيسى، والعشاء ليونس، وفي رواية لموسى عليهم السلام، إلا أن ذلك لا يضر بل هو أنسب بالأمر باتباع سنة جميعهم، وقد استدل الإمام على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى: فبهداهم اقتده من جهة أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالاقتداء بهدي جميعهم وامتثل ذلك فكان عنده من الهدى ما عند الجميع فيكون أفضل من كل واحد منهم، وحينئذ يقال: معنى كون ذلك نافلة له عليه الصلاة والسلام أنه زائد على الصلوات الخمس خاص به صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء عليهم السلام المأمور باتباع سنتهم، وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ويعول عليه بل اللائق به أن يجعل من قبيل حديث النفس وتخيلها بحرا من مسك موجه الذهب؛ فإن فساده تأصيلا وتفريعا مما لا يخفى على من له أدنى مسكة وأقل اطلاع، والله تعالى العاصم من الزلل والحافظ من الخطأ والخطل، وانتصاب ( نافلة ) إما على المصدرية [ ص: 140 ] بتقدير تنفل، وقدر الحوفي نفلناك أو بجعل تهجد بمعنى تنفل أو بجعل «نافلة» بمعنى تهجدا، فإن ذلك عبادة زائدة، وإما على الحال من الضمير الراجع إلى القرآن أي حال كونه صلاة نافلة كما قال أبو البقاء، وإما على المفعول لتهجد كما جوزه الحوفي إذا كان بمعنى صل، وجعل الضمير المجرور للبعض المفهوم، أو للوقت المقدر؛ أي: فصل فيه نافلة لك.

                                                                                                                                                                                                                                      عسى أن يبعثك ربك الذي يبلغك إلى كمالك اللائق بك من بعد الموت الأكبر لما انبعثت من الموت الأصغر بالصلاة والعبادة، فالمعنى على التعليل والتهوين لمشقة قيام الليل حتى زعم بعضهم: أن عسى بمعنى كي، وهو وهم؛ بل هي كما قال أهل المعاني للإطماع، ولما كان إطماع الكريم إنسانا بشيء ثم حرمانه منه غرورا والله عز وجل أجل وأكرم من أن يغر أحدا فيطمعه في شيء ثم لا يعطيه قالوا: هي للوجوب منه تعالى مجده على معنى أن المطمع به يكون ولا بد للوعد، وقيل: هي على بابها للترجي لكن يصرف إلى المخاطب أي: لتكن على رجاء من أن يبعثك ربك مقاما محمودا وهي تامة و أن يبعثك فاعلها، و ( ربك ) فاعله و مقاما كما قال جمع: منصوب على الظرفية؛ إما على إضمار فعل الإقامة أو على تضمين الفعل المذكور ذلك، أي: عسى أن يبعثك فيقيمك مقاما أي في مقام، أو يقيمك في مقام محمود باعثا إذ لا يصح أن يعمل في مثل هذا الظرف إلا فعل فيه معنى الاستقرار خلافا للكسائي، واستظهر في البحر كونه معمولا ليبعثك، وهو مصدر من غير لفظ الفعل لأن نبعث بمعنى نقيم؛ تقول: أقيم من قبره، وبعث من قبره.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أبو البقاء وغيره كونه حالا بتقدير مضاف؛ أي: نبعثك ذا مقام، وقيل: يجوز أن يكون مفعولا به ليبعثك على تضمينه معنى نعطيك، وجوز أبو حيان أن تكون عسى ناقصة و «ربك» الفاعل على تقدير أن ينتصب مقاما بمحذوف لا يبعث لئلا يلزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وتنكير «مقاما» للتعظيم، والمراد بذلك المقام مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم موسى فيقول كذلك، ثم محمد فيشفع فيقضي الله تعالى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه الله تعالى مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون: أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحا فيأتون نوحا فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقول: ائتوا موسى فيقول: إني قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى، فيقول: إني عبدت من دون الله تعالى، ولكن ائتوا محمدا فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد فيفتحون لي ويقولون: مرحبا، فأخر ساجدا فيلهمني الله تعالى من الثناء والحمد والمجد فيقال: ارفع رأسك سل تعط، واشفع تشفع، وقل يسمع لقولك فهو المقام المحمود الذي قال الله [ ص: 141 ] تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا .

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام يسجد أربع سجدات؛ أي كسجود الصلاة كما هو الظاهر تحت العرش فيجاب لما فزعوا إليه، وذكر الغزالي في الدرة الفاخرة أن بين إتيانهم نبيا وإتيانهم ما بعده ألف سنة ولا أصل له كما قال الحافظ ابن حجر، وقيل: هو مقام الشفاعة لأمته صلى الله عليه وسلم لما أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المقام المحمود في الآية فقال: «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي».

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاب من ذهب إلى الأول بأنه يحتمل أن يكون المراد المقام الذي أشفع فيه أولا لأمتي.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضا من حديث طويل في الشفاعة فيه: فزع الناس إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام واعتذار كل منهم ما عدا عيسى عليه السلام بذنب أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فيأتوني - يعني الناس - بعد من علمت من الأنبياء عليهم السلام فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي، ثم يفتح الله تعالى علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب».

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الناس من فسره بمقام الشفاعة في موقف الحشر حيث يعترف الجميع بالعجز أعم من أن تكون عامة كالشفاعة لفصل القضاء أو خاصة كالشفاعة لبعض عصاة أمته صلى الله عليه وسلم في العفو عنهم، والاقتصار على أحد الأمرين في بعض الأخبار لنكتة اقتضاها الحال ولكل مقام مقال، وحمل هذا الشفاعة للأمة في خبر أبي هريرة المتقدم على الشفاعة لبعض عصاتهم في الموقف قبل دخولهم النار وإلا فلو أريد الشفاعة لهم بعد الحساب ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار كما روي عن أبي سعيد لم يتيسر الجمع بين الروايات إلا بأن يقال: المقام المحمود هو مقام الشفاعة أعم من أن تكون في الموقف عامة وخاصة وأن تكون بعد ذلك ويكون الاقتصار لنكتة، وقد جاء تفسيره بمقام الشفاعة مطلقا.

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن وهب عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المقام المحمود الشفاعة».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه فسره بذلك، ثم الشفاعة من حيث هي وإن شاركه فيها صلى الله عليه وسلم غيره من الملائكة والأنبياء عليهم السلام وبعض المؤمنين إلا أن الشفاعة الكاملة والأنواع الفاضلة لا تثبت لغيره عليه الصلاة والسلام، وقد أوصل بعضهم الشفاعة المختصة به صلى الله عليه وسلم إلى عشر، وذكره بعض شراح البخاري فليراجع، ووصف المقام بأنه محمود على ما ذكر باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم يحمد فيه على إنعامه الواصل إلى الخاص والعام من أصناف الأنام.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج النسائي والحاكم وصححه وجماعة عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: «يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه فينادي: يا محمد، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت». فهذا المقام المحمود.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال في الآية: يجلسه فيما بينه وبين جبريل عليه السلام ويشفع لأمته فذلك المقام المحمود.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 142 ] وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه قال: المقام المحمود أن يجلسه معه على عرشه، وأنت تعلم أن الحمد على أكثر ما في هذه الروايات مجاز عند من يقول: إنه مختص بالثناء على الإنعام، وأما عند من يقول بعدم الاختصاص فلا مجاز، وتعقب الواحدي القول بأن المقام المحمود إجلاسه صلى الله عليه وسلم عز وجل على العرش بعد ذكر روايته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأنه قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه، الأول: أن البعث ضد الإجلاس؛ يقال: بعث الله تعالى الميت إذا أقامه من قبره، وبعثت البارك والقاعد فانبعث فتفسيره به تفسير الضد بالضد، الثاني: لو كان جالسا سبحانه وتعالى على العرش لكان محدودا متناهيا فيكون محدثا تعالى عن ذلك علوا كبيرا، الثالث: أنه سبحانه قال: مقاما ولم يقل: مقعدا، والمقام موضع القيام لا القعود، الرابع: أن الحمقى والجهال يقولون: إن أهل الجنة كلهم يجلسون معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنياوية فلا مزية له صلى الله عليه وسلم بإجلاسه معه عز وجل. الخامس: أنه إذا قيل: بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه انتهى. وأبو عمر لم يطلع إلا على رواية ذلك عن مجاهد فقال: إن مجاهدا وإن كان أحد الأئمة بتأويل القرآن حتى قيل: إذا جاءك التأويل عن مجاهد فحسبك إلا أن له قولين مهجورين عند أهل العلم، أحدهما تأويل المقام المحمود بهذا الإجلاس، والثاني تأويل: إلى ربها ناظرة بانتظار الثواب.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم فما زال أهل العلم يحدثون به، قال ابن عطية: أراد: من أنكره على تأويله فهو متهم وقد يؤول قوله صلى الله عليه وسلم: «يجلسني معه» على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله تعالى: إن الذين عند ربك وقوله سبحانه حكاية: ابن لي عندك بيتا وقوله تعالى: وإن الله لمع المحسنين إلى غير ذلك مما هو كناية عن المكانة لا عن المكان.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أنه لا ينبغي لمجاهد ولا لغيره أن يفسر المقام المحمود بالإجلاس على العرش حسبما سمعت من غير أن يثبت عنده ذلك الإجلاس.

                                                                                                                                                                                                                                      في خبر كخبر الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: عسى أن يبعثك إلخ... يجلسني معه على السرير».

                                                                                                                                                                                                                                      فإن تمسك المفسر بهذا أو نحوه لم يناظر إلا بالطعن في صحته وبعد إثبات الصحة لا مجال للمؤن إلا التسليم، وما ذكره الواحدي لا يستلزم عدم الصحة، فكم وكم من حديث نصوا على صحته ويلزم من ظاهره المحال كحديث أبي سعيد الخدري المشتمل على رؤية المؤمنين الله عز وجل ثم إتيانه إياهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها، وقوله تعالى لهم: أنا ربكم وقولهم: نعوذ بالله تعالى منك حتى يكشف لهم عن ساق فيسجدون ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة وهو في الصحيحين.

                                                                                                                                                                                                                                      وحديث لقيط بن عامر المشتمل على قوله صلى الله عليه وسلم: «تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة - لعمر إلهك - لا تدع على ظهرها شيئا إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد» الحديث.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رواه أئمة السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد إلى ما لا يحصى من هذا القبيل، ومذاهب المحدثين وأهل الفكر من العلماء في الكلام على ذلك مما لا تخفى، ومتى أجريت هناك فلتجر هنا فالكل قريب من قريب. والصوفية يقولون: إن لله عز وجل الظهور فيما يشاء على ما يشاء وهو سبحانه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق فإنه العزيز الحكيم، ومتى ظهر جل وعلا في [ ص: 143 ] صورة أجريت عليه سبحانه أحكامها من حيث الظهور فيوصف عز مجده عندهم بالجلوس ونحوه من تلك الحيثية وينحل بذلك أمور كثيرة إلا أنه مبني على ما دون إثباته خرط القتاد، ويرد على ما ذكره الواحدي في الوجه الثالث أن المقام وإن كان في الأصل بمعنى محل القيام إلا أنه شاع في مطلق المحل ويطلق على الرتبة والشرف، وعلى ما ذكره في الوجه الأول أنه ليس هناك إلا تفسير المقام المحمود بالإجلاس لا تفسير البعث بالإجلاس نعم فيه مسامحة، والمراد أن إحلاله في المحل المحمود هو إجلاسه على العرش، وهذا المعنى يتأتى بإبقاء البعث على معناه، وتقدير فيقيمك بمعنى فيحلك، وبتفسيره بالإقامة بمعنى الإحلال، وقد يقال: لا مسامحة والمراد من المقام الرتبة، والبعث متضمن معنى الإعطاء أي: عسى يعطيك ربك رتبة محمودة وهي إجلاسه إياك على عرشه باعثا، وما ذكره في الوجه الثاني حق لو أريد من الجلوس على العرش ظاهره، إن أريد معنى آخر فلا نسلم اللازم، وباب التأويل واسع، وقد أول الإجلاس معه على رفع المحل والتشريف وهو مقول بالتشكيك فمتى صح أن أهل الجنة كلهم يجلسون معه آمنا به مع إثبات المزية للرسول صلى الله عليه وسلم فاندفع ما ذكره في الوجه الرابع، ويرد على ما في الوجه الخامس أن الإجلاس معه لم يفهم من مجرد البعث وما ادعى أحد ذلك فكون: بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه لا يضرنا كما لا يخفى على منصف.

                                                                                                                                                                                                                                      وبالجملة: كل ما قيل أو يقال لا يصغى إليه إن صح التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن يبقى حينئذ أنه يلزم التعارض بين ظواهر الروايات، ومن هنا قال بعضهم: المراد بالمقام المحمود ما ينتظم كل مقام يتضمن كرامة له صلى الله عليه وسلم، والاقتصار في بعض الروايات على بعض لنكتة نحو ما مر، ووصفه بكونه محمودا إما باعتبار أنه صلى الله عليه وسلم يحمد لله تعالى عليه أبلغ الحمد أو باعتبار أن كل من يشاهده يحمده ولم يشترط أن يكون الحمد في مقابلة النعمة ويدخل في هذا كل مقام له صلى الله عليه وسلم محمود في الجنة.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذا يدخل فيه ما جوز مفتي الصوفية سيدي شهاب الدين السهروردي أن يكون المقام المحمود وهو إعطاؤه عليه الصلاة والسلام مرتبة من العلم لم تعط لغيره من الخلق أصلا، فإنه ذكر في رسالة له في العقائد: أن علم عوام المؤمنين يكون يوم القيامة كعلم علمائهم في الدنيا، ويكون علم العلماء إذ ذاك كعلم الأنبياء عليهم السلام، ويكون علم الأنبياء كعلم نبينا صلى الله عليه وسلم ويعطى نبينا عليه الصلاة والسلام من العلم ما لم يعط أحد من العالمين، ولعله المقام المحمود ولم أر ذلك لغيره عليه الرحمة. والله تعالى أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم هذا الاختلاف في المقام المحمود هنا لم يقع فيه في دعاء الأذان بل ادعى العلامة ابن حجر الهيتمي أنه فيه مقام الشفاعة العظمى لفصل القضاء اتفاقا فتأمل في هذا المقام. والله تعالى ولي الإنعام والإفهام.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية