الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الثالث : في الحالف ، وهو كل من يتوجه عليه دعوى صحيحة ، وقيل : كل من توجهت عليه دعوى لو أقر لمطلوبها ألزم به ، فإذا أنكر ، حلف عليه ، وقبل منه ، ويستثنى عن هذا الضبط صور ، فنذكرها مع ما يدخل فيه ويخرج منه ، إحداها : يجزئ التحليف في النكاح والطلاق والرجعة والفيئة ، وفي الإيلاء ، وفي العتق والاستيلاد ، والولاء ، والنسب ، ولا تسمع دعوى في حدود الله تعالى ، ولا بطلب الجواب ؛ لأنها ليست حقا للمدعي ، فإن تعلق به حق آدمي ، بأن قذفه ، فطلب حد القذف ، فقال القاذف : حلفوه أنه لم يزن [ ص: 38 ] فالأصح أنه يحلف ، كما سبق في المسألة الثالثة من الباب الأول ، فإن حلف أقيم على القاذف ، وإن نكل ، وحلف القاذف ، سقط حد القذف ، ولا يثبت بحلفه حد الزنى على المقذوف . ولو ادعى سرقة ماله ، سمعت دعواه للمال ، وحلف المدعى عليه ، فإن نكل حلف المدعي ، واستحق المال ، ولا يقطع المدعى عليه ؛ لأن حدود الله تعالى لا تثبت باليمين المردودة ، وإذا أقر بما يوجب حدا ، وادعى شبهة بأن وطئ جارية أبيه ، وقال : ظننتها تحل لي ، وهو ممن يجوز أن يشتبه عليه مثله ، حلف وسقط بحلفه الحد ، ولزم المهر ، وتسمع الدعوى . ويجري التحليف في القصاص وحد القذف ، وكذا في الشتم والضرب الموجبين للتعزير .

                                                                                                                                                                        الثانية : ادعى على القاضي أنه ظلمه في الحكم ، أو على الشاهد أنه تعمد الكذب أو الغلط ، أو ادعى عليه ما يسقط شهادته ، لم يحلفا لارتفاع منصبهما عن التحليف ، وقد سبق هذا في الباب الأول ، وفي أول أدب القضاء ، ولو ادعى على المعزول أنه حكم أيام قضائه عليه ظلما ، وأنكر ، فقد سبق وجهان في أنه يحلف أم يصدق بلا يمين وهو الأصح ، هذا في دعوى تتعلق بالحكم ، وأما ما لا يتعلق بالحكم ، كدعوى مال وغيره ، فهو كسائر الناس في الخصومات الشرعية يحكم فيها بينه وبين المدعي خليفته ، أو قاض آخر .

                                                                                                                                                                        الثالثة : الصبي إذا ادعى البلوغ بالاحتلام في وقت الإمكان ، صدق بلا يمين ، كما سبق في الإقرار ، ومن ادعي عليه بشيء ، فقال : أنا صبي بعد وهو محتلم ، لم يحلف ، وتوقف الخصومة حتى يبلغ ، وإن وقع في السبي من أنبت ، وقال : استنبت الشعر بالعلاج ، وأنا غير [ ص: 39 ] بالغ ، بني على القولين السابقين في الحجر أن إنبات العانة نفس البلوغ أم علامته ، وإن قلنا بالأول ، فلا حاصل لكلامه ، وإن قلنا بالثاني وهو الأظهر فالمنصوص المعروف في المذهب أنه يحلف وهو مشكل من جهة أنه يدعي الصبي ، وتحليف من يدعي الصبي لا وجه له ، كما سبق في الإقرار ، فقال ابن القطان والقفال : هذا التحليف احتياط واستظهار ، ومقتضى كلام الجمهور أنه واجب ، وصرح به الروياني ، ونفى الخلاف فيه ، واعتمدوا في تحليفه الإنبات ، وقالوا : كيف نترك الدليل الظاهر بزعم مجرد ؟ فإذا حلف ألحق بالصبيان ، وحقن دمه ، وإن نكل فالمنصوص أنه يقتل ، والثاني : يخلى ، والثالث : يحبس حتى يحلف أو يقر ، والرابع : يحبس حتى يتحقق بلوغه ، ثم يحلف على ما ادعاه من الاستعجال ، فإن لم يحلف قتلناه .

                                                                                                                                                                        الرابعة : ادعى رجل دينا على ميت ، أو أنه أوصى له بشيء ، وللميت وصي في قضاء دينه ، وتنفيذ وصاياه ، فأنكر ، فإن كان للمدعي بينة حكم بها ، وإن لم يكن وأراد تحليف الوصي على نفي العلم ، لم يمكن ؛ لأن مقصود التحليف أن يقر ، والوصي لا يقبل إقراره بالدين والوصية ، فلا معنى لتحليفه ، فلو كان وارثا حلف بحق الوراثة ، وقيم القاضي كالوصي .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        على إنسان حق لرجل ، فطلبه به رجل ، وزعم أنه وكيل المستحق ، ولم يقم بينة ، وأراد تحليفه على نفي العلم بالوكالة ، لم يكن له ؛ لأنه لو اعترف بالوكالة ، لم يلزمه تسليم الحق ، هذا هو المذهب ، وسبق في الوكالة وجه أنه يلزمه التسليم ، وعلى هذا له تحليفه ، وإن [ ص: 40 ] له تحليفه ، وإن لم يلزمه التسليم باعترافه إذا قلنا : اليمين المردودة كالبينة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        هل للوكيل بالخصومة إقامة بينة على وكالته من غير حضور الخصم ؟ وجهان ، حكاهما الإمام ، عن القاضي حسين اشتراطه ، وغيره منعه ، وقد سبق في الوكالة أن الإمام حكى عن القاضي حسين أنه إذا كان الخصم غائبا ، نصب الحاكم مسخرا عنه ، كان المراد هنا إذا كان حاضرا في البلد ، وهناك إذا كان غائبا ، والأصح سماع البينة من غير حاجة إلى حضوره ، ولا إلى نصب مسخر ، ولو وكل بالخصومة في مجلس الحكم ، استغنى عن حجة يقيمها إن كان الخصم حاضرا فإن لم يكن ، فيبنى على أن القاضي هل يقضي بعلمه ؟

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية