الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1133 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله الأغر عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( زيد بن رباح ) بالموحدة ، وعبيد الله بالتصغير ، والأغر هو سلمان شيخ الزهري المتقدم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( صلاة في مسجدي هذا ) قال النووي : ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمانه صلى الله عليه وسلم دون ما زيد فيه بعده ، لأن التضعيف إنما ورد في مسجده ، وقد أكده بقوله هذا ، بخلاف مسجد مكة ، فإنه يشمل جميع مكة ، بل صحح النووي أنه يعم جميع الحرم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلا المسجد الحرام ) قال ابن بطال : يجوز في هذا الاستثناء أن يكون المراد ، فإنه مساو لمسجد المدينة ، أو فاضلا ، أو مفضولا . والأول أرجح ، لأنه لو كان فاضلا أو مفضولا لم يعلم مقدار ذلك إلا بدليل ، بخلاف المساواة . انتهى . وكأنه لم يقف على دليل الثاني ، وقد أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان من طريق عطاء ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا ، وفي رواية ابن حبان : وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة . قال ابن عبد البر : اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه ، ومن رفعه أحفظ وأثبت ، ومثله لا يقال بالرأي . وفي ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا : صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه . وفي بعض النسخ : " من مائة صلاة فيما سواه " . فعلى الأول معناه فيما سواه إلا مسجد المدينة ، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة ، ورجال إسناده ثقات ، لكنه من رواية عطاء في ذلك عنه ، قال ابن عبد البر : جائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما ، وعلى ذلك يحمله أهل العلم بالحديث ، ويؤيده أن عطاء إمام واسع الرواية معروف بالرواية [ ص: 81 ] عن جابر ، وابن الزبير ، وروى البزار ، والطبراني من حديث أبي الدرداء ، رفعه : الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي بألف صلاة ، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة . قال البزار : إسناده حسن . فوضح بذلك أن المراد بالاستثناء تفضيل المسجد الحرام ، وهو يرد على تأويل عبد الله بن نافع وغيره ، وروى ابن عبد البر من طريق يحيى بن يحيى الليثي أنه سأل عبد الله بن نافع عن تأويل هذا الحديث ، فقال : معناه ، فإن الصلاة في مسجدي أفضل من الصلاة فيه بدون ألف صلاة ، قال ابن عبد البر : لفظ دون يشمل الواحد ، فيلزم أن تكون الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بتسعمائة وتسع وتسعين صلاة ، وحسبك بقول يئول إلى هذا ضعفا . قال : وزعم بعض أصحابنا أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بمائة صلاة ، واحتج برواية سليمان بن عتيق ، عن ابن الزبير ، عن عمر ، قال : " صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه " . وتعقب بأن المحفوظ بهذا الإسناد بلفظ : " صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، إلا مسجد الرسول ، فإنما فضله عليه بمائة صلاة " . وروى عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : أخبرني سليمان بن عتيق ، وعطاء ، عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول : صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه . ويشير إلى مسجد المدينة . وللنسائي من رواية موسى الجهني ، عن نافع ، عن ابن عمر ما يؤيد هذا ، ولفظه كلفظ أبي هريرة ، وفي آخره : إلا المسجد الحرام فإنه أفضل منه بمائة صلاة . واستدل بهذا الحديث على تفضيل مكة على المدينة لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه مرجوحة ، وهو قول الجمهور ، وحكي عن مالك ، وبه قال ابن وهب ، ومطرف ، وابن حبيب من أصحابه ، لكن المشهور عن مالك وأكثر أصحابه تفضيل المدينة ، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة مع قوله : موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها . قال ابن عبد البر : هذا استدلال بالخبر في غير ما ورد فيه ، ولا يقاوم النص الوارد في فضل مكة ، ثم ساق حديث أبي سلمة ، عن عبد الله بن عدي بن الحمراء قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزورة ، فقال : والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت . وهو حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي ، وابن خزيمة ، وابن حبان وغيرهم ، قال ابن عبد البر : هذا نص في محل الخلاف ، فلا ينبغي العدول عنه والله أعلم . وقد رجع عن هذا القول كثير من المصنفين من المالكية ، لكن استثنى عياض البقعة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، فحكى الاتفاق على أنها أفضل البقاع ، وتعقب بأن هذا لا يتعلق بالبحث المذكور لأن محله ما يترتب عليه الفضل للعابد . وأجاب القرافي بأن سبب التفضيل لا ينحصر في كثرة الثواب على العمل ، بل قد يكون لغيرها كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود ، وقال النووي في شرح المهذب : لم أر لأصحابنا نقلا في ذلك ، وقال ابن عبد البر : إنما يحتج بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أنكر فضلها ، أما من أقر به وأنه ليس أفضل بعد مكة منها ، فقد أنزلها منزلتها . وقال غيره : سبب تفضيل البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة أنه روي أن المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يخلق . رواه ابن عبد البر في أواخر تمهيده من طريق عطاء الخراساني موقوفا ، وعلى هذا فقد روى الزبير بن بكار أن جبريل أخذ التراب الذي خلق منه النبي صلى الله عليه وسلم من تراب الكعبة ، فعلى هذا ، فالبقعة التي ضمت أعضاءه من تراب الكعبة ، فيرجع الفضل المذكور إلى مكة [ ص: 82 ] إن صح ذلك ، والله أعلم . واستدل به على تضعيف الصلاة مطلقا في المسجدين ، وقد تقدم النقل عن الطحاوي وغيره أن ذلك مختص بالفرائض لقوله صلى الله عليه وسلم : أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة . ويمكن أن يقال : لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه ، فتكون صلاة النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما ، وكذا في المسجدين ، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا . ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب ، ولا يتعدى إلى الإجزاء باتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره ، فلو كان عليه صلاتان فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة ، والله أعلم . وقد أوهم كلام المقري أبي بكر النقاش في تفسيره خلاف ذلك ، فإنه قال فيه : حسبت الصلاة بالمسجد الحرام ، فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة ، وستة أشهر وعشرين ليلة . انتهى . وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة ، فإنها تزيد سبعا وعشرين درجة كما تقدم في أبواب الجماعة ، لكن هل يجتمع التضعيفان أو لا ؟ محل بحث .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية