الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وأما قوله - تعالى - : ورفع بعضهم درجات فذهب جماهير المفسرين إلى أن المراد به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو ما رواه ابن جرير عن مجاهد وأيده .

                          وقال الأستاذ الإمام : إن الأسلوب يؤيده ويقتضيه ; أي لأن السياق في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل ، والتشنيع على اختلافهم واقتتالهم مع أن دينهم واحد في جوهره ، والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والمسلمون ، فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر ، ولعل ذكر آخرهم في الوسط للإشعار بكون شريعته وكذا أمته وسطا .

                          أقول : ومن هذه الدرجات ما هو خصوصية في نفسه الشريفة ، ومنها ما هو في كتابه وشريعته ، ومنها ما هو في أمته ، وآيات القرآن تنبئ بذلك كقوله - تعالى - في سورة القلم :

                          وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 : 4 ] وقوله - تعالى - في أواخر سورة الأنبياء بعد ما ذكر نعمه على أشهرهم وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 : 107 ] ولم يقل مثل هذا في أحد منهم .

                          وقوله في سورة سبأ : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ 34 : 28 ] وقال - تعالى - في فضل القرآن : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 : 9 ] الآيات . وقال فيها : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ 17 : 88 ] وقال في سورة الزمر : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 : 23 ] الآية . وقال فيها : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم [ 39 : 55 ] الآية . وقال : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [ 16 : 89 ] وقال: [ ص: 6 ] ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 : 38 ] ووصفه بالحكيم وبالمجيد وبالعظيم وبالمبين وبالفرقان ، وحفظه من التحريف والتغيير والتبديل ، ووصف الشريعة بقوله - تعالى - في سورة الأعلى : ونيسرك لليسرى [ 87 : 8 ] وقال في أمته ، أي أمة الإجابة الذين اتبعوه حق الاتباع دون الذين لقبوا أنفسهم بلقب الإسلام ولم يهتدوا بهدي القرآن : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ 2 : 143 ] وقال فيها من سورة آل عمران : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [ 3 : 110 ] ولو أردت استقصاء الآيات في وجوه درجاته - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - لأتيت بكثير ، وهذا القليل لا يقال له قليل ، وفي الأحاديث من ذكر خصائصه ما أفرد بالتأليف وهي مما يصح أن تعد من درجاته ، وإنك لترى العلماء مع هذا كله لم يتفقوا على أنه المراد في الآية ، بل جوزوا أن يكون المراد بها إدريس - عليه السلام - لقوله - تعالى - في سورة مريم : ورفعناه مكانا عليا [ 19 : 57 ] على أن المكان ليس بمعنى الدرجات ، وجوز بعضهم أن يكون المراد بمعنى رفع الله درجات غير واحد من الرسل وهو بمعنى التفضيل المطلق في قوله : فضلنا بعضهم على بعض وجعل بعض المتأخرين حمل ورفع بعضهم درجات على نبينا - صلى الله عليه وسلم - من التفسير بالرأي ، وبالغ في التحذير منه ، وكيف يقبل هذا منه والآية جاءت بعد مطلق التفضيل بهذه الوجوه التي يمكن معرفتها بالدلائل على نحو ما قلنا ، وتفسير المبهم بالدليل ليس من التفسير بالرأي ، لا سيما إذا أيده السياق ورضي به الأسلوب ، إنما التفسير بالرأي هو ما يكون من المقلدين ينتحلون مذهبا يجعلونه أصلا في الدين ، ثم يحاولون حمل الآيات عليه ، ولو بالتأويل والتحريف والأخذ ببعض الكتاب وترك بعض .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية