الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا قالت طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة فعليها ثلث الألف ) لأنها لما طلبت الثلاث بألف فقد طلبت كل واحدة بثلث الألف ، وهذا لأن حرف الباء يصحب الأعواض [ ص: 226 ] والعوض ينقسم على المعوض والطلاق بائن لوجوب المال ( وإن قالت طلقني ثلاثا على ألف فطلقها واحدة فلا شيء عليها عند أبي حنيفة رحمه الله ويملك الرجعة . وقالا هي واحدة بائنة بثلث الألف ) لأن كلمة على بمنزلة الباء في المعاوضات ، حتى إن قولهم احمل هذا الطعام بدرهم أو على درهم سواء .

وله أن كلمة على للشرط ، قال الله تعالى { يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا } ومن قال لامرأته أنت طالق على أن تدخلي الدار كان شرطا ، وهذا لأنه للزوم حقيقة ، واستعير للشرط لأنه يلازم الجزاء ، وإذ كان للشرط فالمشروط لا يتوزع على أجزاء الشرط ، [ ص: 227 ] بخلاف الباء لأنه للعوض على ما مر ، وإذا لم يجب المال كان مبتدأ فوقع الطلاق ويملك الرجعة ( ولو قال الزوج طلقي نفسك ثلاثا بألف أو على ألف فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء ) لأن الزوج ما رضي بالبينونة إلا لتسلم له الألف كلها ، بخلاف قولها طلقني ثلاثا بألف لأنها لما رضيت بالبينونة بألف كانت ببعضها أرضى ( ولو قال أنت طالق على ألف فقبلت طلقت وعليها الألف وهو كقوله أنت طالق بألف ) ولا بد من القبول في الوجهين لأن [ ص: 228 ] معنى قوله بألف بعوض ألف يجب لي عليك ، ومعنى قوله على ألف على شرط ألف يكون لي عليك ، والعوض لا يجب بدون قبوله ، والمعلق بالشرط لا ينزل قبل وجوده . والطلاق بائن لما قلنا .

التالي السابق


( قوله فطلقها واحدة ) أي في المجلس حتى لو قام فطلقها لا يجب شيء ( قوله فعليها ثلث الألف ) وبه قال الشافعي . وعن مالك تقع بالألف .

وعند أحمد تقع بغير شيء ، والدعوى موقوفة على إثبات التلازم بين طلبها الثلاث بألف وطلب الواحدة بثلثه فأثبته بقوله إن الباء تصحب الأعواض باتفاق ، والعوض ينقسم على المعوض بالضرورة وإلا لخلا بعضه عنه فيكون بعضه بلا عوض ، لكن الغرض أن لا تبرع بشيء منه ، لكن لازم هذا جعل كل طلقة بمقابلة ثلث الألف ، والمطلوب وهو طلب كل طلقة بثلثه لازمه ، لأنه إذا كان العلم محيطا بالانقسام في نفس الأمر يكون طلب الجملة بعوض طلب كل جزء منه بكل جزء منه ، لكن يبقى فيه أنه إنما هو طلب الطلقة بحصتها حال كونها مع الطلقتين الأخريين لا منفردة ، فإيقاعه الواحدة فقط إيقاع غير المسئول فيقع بغير شيء ، وهو وجه قول الإمام أحمد ، فلذا رتب في الكافي الدعوى على اللازم الأول وهو جعلها كل طلقة بثلثها ، وجعله نظير من يقول لغيره بع هؤلاء العبيد الثلاثة بألف فباع أحدهم بثلثها يجوز باعتبار أنه تحصيل بعض المقصود ، كذا هذا بل أولى ، فإن مقصودها الأصلي ملكها نفسها بقطع ملكه ، غير أنها ذكرت إحدى صورتي ذلك وهو الثلاث بعد علمها بحصة كل منها فإبانتها بواحدة تحصيل أصل المقصود في صورة أخرى فهو أولى بجوازه بحصتها ، بخلاف عدم الجواز في قوله بعتك هذه الأعبد الثلاثة بألف كل واحد بثلثها فقبل في واحد لا يجوز على قول أبي حنيفة فإنه لمانع وهو تفريق الصفقة فإنه ضرر على البائع ، لأن عادة التجار ضم الجيد إلى الرديء في الصفقة ليروجوا الرديء ، فالقبول [ ص: 226 ] في بعضها إلحاق الضرر به .

وبخلاف ما لو قال لها أنت طالق ثلاثا بألف فقبلت في واحدة لا يقع شيء ولا يجب شيء لأن الزوج هناك راض بالبينونة مقابلا بثلث الألف حيث كان الإيقاع منه ، وفي هذه لم يرض بها إلا وأن يكون بإزائها ألف ولم يوجد منه بعد الإيجاب ما يدل على الرضا . ولو قالت طلقني ثلاثا بألف فطلقها ثلاثا متفرقة في مجلس واحد استحق الألف استحسانا .

وفي الذخيرة : قالت طلقني ثلاثا على ألف ولم يبق من طلاقها إلا واحدة فطلقها واحدة يلزمها الألف لأنها التزمته بإزاء الحرمة الغليظة . وفي المرغيناني : لو قال أنت طالق أربعا بألف فقبلت طلقت ثلاثا بألف ، ولو قبلت الثلاث بالألف لم يقع . وفي الخلاصة قبيل الفصل الرابع في الأمر باليد عن أبي يوسف : لو قالت طلقني أربعا بألف فطلقها ثلاثا فهي بالألف ، ولو طلقها واحدة فبثلث الألف ( قوله وهذا لأنه للزوم حقيقة واستعير للشرط ) يبين أن قوله إن كلمة ( على ) للشرط مراده مجازا .

وفي النهاية : لا يتم تعليل أبي حنيفة إلا على تعليل المبسوط حيث ادعى أنها للشرط حقيقة لأنه على تقدير كونها مستعارة للشرط ، لهما أن يقولا لم صارت تلك الاستعارة أولى من استعارتها لمعنى الباء ، بل استعارتها لمعنى الباء أولى لأن حقيقتها الإلزام بالاتفاق ، والمناسبة بين الإلصاق واللزوم أكثر منها بين الإلزام والشرط . ثم نقل في المبسوط أنها للشرط حقيقة وهو ممكن هنا إذ الطلاق مما يتعلق به فيجب اعتبارها فيه إذ لا يعدل إلى المجاز مع إمكان الحقيقة .

والحق أن يقال : إنها حقيقة للاستعلاء إذا اتصلت بالأجسام المحسوسة كقمت على السطح والعتبة وجلست على [ ص: 227 ] الأرض والبساط ومسحت على رأسي ، وهو محمل إطلاق أهل العربية كونها للاستعلاء ، وفي غير ذلك هي حقيقة في معنى اللزوم الصادق في ضمن ما يجب فيه الشرط المحض نحو قوله { يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا } أي بشرط ذلك ، ونحوه أنت طالق على أن تدخلي الدار ، وما يجب فيه المعاوضة الشرعية المحضة كبعني هذا على ألف واحمله على درهم ، والعرفية كأفعل كذا على أن أنصرك أو أعطيك أو أشفع لك عند فلان ، والمحل المتنازع فيه مما يصح فيه كل من الأمرين لأن الطلاق مما يتعلق على الشرط المحض والاعتياض به ولا مرجح ، وكون مدخولها مالا لا يرجح معنى الاعتياض فإن المال يصح جعله شرطا محضا حتى لا تنقسم أجزاؤه على أجزاء مقابله ، كما لو قالت إن طلقتني ثلاثا فلك ألف حتى لا يكون شيء من الطلقات مقابلا بشيء بل المجموع ينزل عند المجموع ، كما يصح جعله عوضا منقسما كما في بألف ، فعلى اعتبار المعاوضة ثلث الألف بالطلقة وعلى اعتبار الشرط لا ، إذ الشرط لا تتوزع أجزاؤه على أجزاء المشروط ، بل مجموعه مجعول علامة على نزول كله ، فدار الأمر بين لزوم ثلث الألف وعدمه فلا يلزم بالشك ولا يحتاط في اللزوم إذ الأصل فراغ الذمة حتى يتحقق اشتغالها ، وعلى هذا التقرير يكون لفظا مشتركا بين الاستعلاء واللزوم ، وكونه لا يوجب التوقف عند إطلاقه كما في المشتركات لا ينفيه ، إذ غايته أنه للزوم القرينة المعينة لأحد المفهومين وهو خصوص المادة أعني كون مدخولها جسما محسوسا أو غيره ، وكون المجاز خيرا من الاشتراك هو عند التردد .

أما عند قيام دليل الحقيقة وهو التبادر بمجرد الإطلاق فلا ، ولا شك أن الاشتراك واقع وليس إلا لدليله ، على أنه لو سلم دعوى أن المعنى الحقيقي هو الاستعلاء والمجازي اللزوم ، ليس بأولى من القلب ، وكون ذلك قول أهل العربية لا يرجحه لأن أهل الاجتهاد هم أهل العربية وغيرها وأحد من الكل لا ينقل عن الواضع أن المعنى الحقيقي كذا ، بل ليس حكمهم به إلا بناء على ما رأوه متبادرا عند الإطلاق لأهل اللسان ، ونحن أوجدناك تبادر اللزوم في ذلك النوع كما يتبادر الاستعلاء في الآخر .

هذا ولو تنزلنا إلى كونه في اللزوم مجازا لم يضرنا في المطلوب فنقول : لما تعذرت الحقيقة : أعني الاستعلاء كان في المجازي : أعني اللزوم ، وهذا المعنى المجازي معنى كلي صادق مع ما يجب فيه الشرطية وما يجب فيه المعاوضة إلى آخر ما قلناه بعينه ( قوله ولو قال الزوج طلقي نفسك ثلاثا بألف ) تقدم وجه الفرق بين ابتدائها وابتدائه ( قوله ولو قال أنت طالق ، إلى قوله : ولا بد من القبول ) لو قال أنت طالق بألف أو على ألف [ ص: 228 ] أو خلعتك أو بارأتك أو طلقتك بألف أو على ألف يقع على القبول في مجلسها وهو يمين من جهته فيصح تعليقه وإضافته ، ولا يصح رجوعه ولا يبطل بقيامه عن المجلس ويتوقف على البلوغ إليها إذا كانت غائبة لأنه تعليق الطلاق بقبولها المال ، وهو من جهتها مبادلة فلا يصح تعليقها وإضافتها ، ويصح رجوعها قبل قبول الزوج ويبطل بقيامها .

أما تعليقه بالقبول فلأن الباء للمعاوضة ، وقدمنا أن في المعاوضات يتعلق الحكم بالقبول ، وكذا على عندهما فلا إشكال ، وعنده هي للشرط فلا بد من تقدير فعله فهو إما القبول أو الأداء ، ويتعين القبول بدلالة الحال وهو قصد المعاوضة . فإن قلت : فلم لم تعتبر جهة المعاوضة في قولها طلقني ثلاثا على ألف فطلقها واحدة على قوله وكان يجب ثلثها .

فالجواب : صلاحية هذا القدر لكونه قرينة معينة للشرط أنه القبول أو الأداء بعد لزوم إرادة أحدهما لا يستلزم لزوم جعله موجبا لأصل المال من غير أن يثبت لزومه ، بل قالوا ما هو أبلغ من هذا ، وهو لو قال أنت طالق على أن تعطيني ألفا تعلق بالقبول مصرح به في جواب الرواية من كتب محمد ، أما لو قال إذا أعطيتني أو إذا جئتني بألف فلا تطلق حتى تعطيه للتصريح بجعل الإعطاء شرطا بخلافه مع على ، حتى إنه إذا كان على الزوج دين لها وقعت المقاصة في مثله في مسألة ( على أن تعطيني ) دون إن أعطيتني إلا أن يرضى الزوج طلاقا مستقبلا بألف لها عليه ، وذلك لأنه يقال على أن تعطيني منك كذا ، ويراد قبوله في العرف ، قال تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } أي حتى يقبلوا ، للإجماع على أن بقبولها ينتهي الحرب معهم ، هذا ثم في قوله إن أعطيتني يشترط الإعطاء في المجلس لوقوع الطلاق ، وفي قوله إذا أو متى أعطيتني لا حاجة إلى الإعطاء في المجلس ، وهذا يبين أن معنى المعاوضة ملاحظ وإن ذكر بصريح الشرط ، وسنذكر نحوه من مختصر الحاكم .

وأما الثاني وهو اشتراط مجلسها فلأنه معاوضة من جانبها حتى صح رجوعها إذا ابتدأ قبل قبول الزوج ولا يصح تعليقها ولا إضافتها والمبادلات تستدعي جوابا في المجلس ، فإذا لم تجب حتى قامت لم يعتبر قبولها إذ ذاك وفي جانبه هو يمين على ما سنذكره .

[ فرع ]

قال لأجنبية أنت طالق على ألف إن تزوجتك فقبلت ثم تزوجها لا يعتبر القبول إلا بعد التزوج ، ولم يحك خلافا في جوامع الفقه ، وغيره جعل هذا قول أبي حنيفة .

وعند أبي يوسف : إذا قبلت عند قوله ثم تزوجها طلقت . والحق قول أبي حنيفة لأنه خلع بعد التزوج فيشترط القبول بعده




الخدمات العلمية