الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        1142 حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى هو ابن يونس عن إسماعيل عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني قال قال لي زيد بن أرقم إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن إسماعيل ) هو ابن أبي خالد ، والحارث بن شبيل ليس له في البخاري غير هذا الحديث ، وأبوه بمعجمة وموحدة ، وآخره لام مصغرا ، وليس لأبي عمر ، وسعد بن إياس الشيباني شيخه عن زيد بن أرقم غيره .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن كنا لنتكلم ) بتخفيف النون ، وهذا حكمه الرفع ، وكذا قوله : " أمرنا " لقوله فيه : " على عهد النبي صلى الله عليه وسلم " ، حتى ولو لم يقيد بذلك لكان ذكر نزول الآية كافيا في كونه مرفوعا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يكلم أحدنا صاحبه بحاجته ) تفسير لقوله : " نتكلم " ، والذي يظهر أنهم كانوا لا يتكلمون فيها بكل شيء ، وإنما يقتصرون على الحاجة من رد السلام ونحوه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حتى نزلت ) ظاهر في أن نسخ الكلام في الصلاة وقع بهذه الآية ، فيقتضي أن النسخ وقع بالمدينة لأن الآية مدنية باتفاق ، فيشكل ذلك على قول ابن مسعود : إن ذلك وقع لما رجعوا من عند النجاشي ، وكان رجوعهم من عنده إلى مكة ، وذلك أن بعض المسلمين هاجر إلى الحبشة ، ثم بلغهم أن المشركين أسلموا ، فرجعوا إلى مكة ، فوجدوا الأمر بخلاف ذلك ، واشتد الأذى عليهم ، فخرجوا إليها أيضا ، فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى ، وكان ابن مسعود مع الفريقين ، واختلف في مراده بقوله : " فلما رجعنا " ، هل أراد الرجوع الأول أو الثاني ، فجنح القاضي أبو الطيب الطبري وآخرون إلى الأول ، وقالوا : كان تحريم الكلام بمكة ، وحملوا حديث زيد على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ ، وقالوا : لا مانع أن يتقدم الحكم ، ثم تنزل الآية بوفقه . وجنح آخرون إلى الترجيح ، فقالوا : يترجح حديث ابن مسعود بأنه حكى لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، بخلاف زيد بن أرقم ، فلم يحكه ، وقال آخرون : إنما أراد ابن مسعود رجوعه الثاني ، وقد ورد أنه قدم المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر ، وفي مستدرك الحاكم من طريق أبي إسحاق ، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن مسعود قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ثمانين رجلا . فذكر الحديث بطوله ، وفي آخره : " فتعجل عبد الله بن مسعود فشهد بدرا " . وفي السير لابن إسحاق : أن المسلمين بالحبشة لما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلا ، فمات منهم رجلان بمكة وحبس منهم سبعة ، وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلا ، فشهدوا بدرا . فعلى هذا كان ابن مسعود من هؤلاء ، فظهر أن اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه كان بالمدينة ، وإلى هذا الجمع نحا الخطابي ولم يقف من تعقب كلامه على مستنده ، ويقوي هذا الجمع رواية كلثوم المتقدمة ، فإنها ظاهرة في أن كلا من ابن مسعود ، وزيد بن أرقم حكى أن الناسخ قوله تعالى : وقوموا لله قانتين ، وأما قول ابن [ ص: 90 ] حبان : كان نسخ الكلام بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين ، قال : ومعنى قول زيد بن أرقم : " كنا نتكلم " ؛ أي كان قومي يتكلمون ، لأن قومه كانوا يصلون قبل الهجرة مع مصعب بن عمير الذي كان يعلمهم القرآن ، فلما نسخ تحريم الكلام بمكة بلغ ذلك أهل المدينة فتركوه ، فهو متعقب بأن الآية مدنية باتفاق ، وبأن إسلام الأنصار وتوجه مصعب بن عمير إليهم إنما كان قبل الهجرة بسنة واحدة ، وبأن في حديث زيد بن أرقم : كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . كذا أخرجه الترمذي ، فانتفى أن يكون المراد الأنصار الذين كانوا يصلون بالمدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم . وأجاب ابن حبان في موضع آخر بأن زيد بن أرقم أراد بقوله : " كنا نتكلم " من كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم بمكة من المسلمين ، وهو متعقب أيضا بأنهم ما كانوا بمكة يجتمعون إلا نادرا ، وبما روى الطبراني من حديث أبي أمامة ، قال : " كان الرجل إذا دخل المسجد فوجدهم يصلون سأل الذي إلى جنبه ، فيخبره بما فاته ، فيقضي ، ثم يدخل معهم ، حتى جاء معاذ يوما ، فدخل في الصلاة " . فذكر الحديث ، وهذا كان بالمدينة قطعا ، لأن أبا أمامة ، ومعاذ بن جبل إنما أسلما بها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حافظوا على الصلوات . . . الآية ) كذا في رواية كريمة ، وساق في رواية أبي ذر ، وأبي الوقت الآية إلى آخرها ، وانتهت رواية الأصيلي إلى قوله : ( الوسطى ) وسيأتي الكلام على المراد بالوسطى وبالقنوت في تفسير البقرة ، وحديث زيد بن أرقم ظاهر في أن المراد بالقنوت السكوت .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأمرنا بالسكوت ) ؛ أي عن الكلام المتقدم ذكره لا مطلقا ، فإن الصلاة ليس فيها حال سكوت حقيقة . قال ابن دقيق العيد : ويترجح بما دل عليه لفظ " حتى " التي للغاية والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق عليها ، لما يأتي بعدها .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيه ) : زاد مسلم في روايته : " ونهينا عن الكلام " ، ولم يقع في البخاري ، وذكرها صاحب العمدة ، ولم ينبه أحد من شراحها عليها ، واستدل بهذه الزيادة على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده ، إذ لو كان كذلك لم يحتج إلى قوله : " ونهينا عن الكلام " وأجيب بأن دلالته على ضده دلالة التزام ، ومن ثم وقع الخلاف ، فلعله ذكر لكونه أصرح ، والله أعلم . قال ابن دقيق العيد : هذا اللفظ أحد ما يستدل به على النسخ ، وهو تقدم أحد الحكمين على الآخر ، وليس كقول الراوي : هذا منسوخ ، لأنه يطرقه احتمال أن يكون قاله عن اجتهاد ، وقيل : ليس في هذه القصة نسخ ، لأن إباحة الكلام في الصلاة كان بالبراءة الأصلية ، والحكم المزيل لها ليس نسخا . وأجيب بأن الذي يقع في الصلاة ونحوها مما يمنع أو يباح إذا قرره الشارع كان حكما شرعيا ، فإذا ورد ما يخالفه كان ناسخا ، وهو كذلك هنا . قال ابن دقيق العيد : وقوله : " ونهينا عن الكلام " يقتضي أن كل شيء يسمى كلاما ، فهو منهي عنه حملا للفظ على عمومه ، ويحتمل أن تكون اللام للعهد الراجع إلى قوله : " يكلم الرجل منا صاحبه بحاجته " ، وقوله : " فأمرنا بالسكوت " ؛ أي عما كانوا يفعلونه من ذلك .

                                                                                                                                                                                                        ( تكميل ) : أجمعوا على أن الكلام في الصلاة - من عالم بالتحريم عامد لغير مصلحتها ، أو إنقاذ مسلم - مبطل لها ، واختلفوا في الساهي والجاهل ، فلا يبطلها القليل منه عند الجمهور ، وأبطلها الحنفية مطلقا كما سيأتي في الكلام على حديث ذي اليدين في السهو ، واختلفوا في أشياء أيضا ، كمن جرى على لسانه بغير قصد أو تعمد إصلاح الصلاة لسهو دخل على إمامه ، أو لإنقاذ مسلم لئلا يقع في مهلكة ، أو فتح على إمامه ، أو سبح لمن [ ص: 91 ] مر به ، أو رد السلام ، أو أجاب دعوة أحد والديه ، أو أكره على الكلام ، أو تقرب بقربة كأعتقت عبدي لله ، ففي جميع ذلك خلاف محل بسطه كتب الفقه ، وستأتي الإشارة إلى بعضه حيث يحتاج إليه . قال ابن المنير في الحاشية : الفرق بين قليل الفعل للعامد فلا يبطل ، وبين قليل الكلام أن الفعل لا تخلو منه الصلاة غالبا لمصلحتها ، وتخلو من الكلام الأجنبي غالبا مطردا ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية