الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        2359 - حدثنا علي بن شيبة ، قال : ثنا معاوية بن عمرو الأزدي ، قال : ثنا زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : مرض النبي صلى الله عليه وسلم فقال : مروا أبا بكر ، فليصل بالناس . فقالت عائشة رضي الله عنها إن أبا بكر رجل رقيق ، فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف .

                                                        [ ص: 407 ] قال : قام أبو بكر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان من الحجة عليهم في ذلك أنه قد روي هذا الحديث الذي قد ذكروه . ولكن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته تلك تدل على أنه كان إماما ، وذلك أن عائشة قالت في حديث الأسود عنها فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يسار أبي بكر وذلك قعود الإمام لأنه لو كان أبو بكر إماما له ، لكان النبي صلى الله عليه وسلم يقعد عن يمينه . فلما قعد عن يساره وكان أبو بكر عن يمينه ، دل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام ، وأن أبا بكر هو المأموم .

                                                        وحجة أخرى ، أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال في حديثه فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة من حيث انتهى أبو بكر .

                                                        ففي ذلك ما يدل أن أبا بكر قطع القراءة ، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                        فذلك دليل أنه كان الإمام ، ولولا ذلك ، لم يقرأ ، لأن تلك الصلاة كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة ، ولولا ذلك لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموضع الذي انتهى إليه أبو بكر من القراءة ، ولا علمه من خلف أبي بكر .

                                                        فلما ثبت بما وصفنا أن تلك الصلاة ، كانت مما يجهر فيها بالقراءة ، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، وكان الناس جميعا لا يختلفون أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام ، كما يقرأ الإمام . ثبت بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في تلك الصلاة إماما .

                                                        فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار .

                                                        وأما وجهه من طريق النظر ، فإنا رأينا الأصل المجتمع عليه أن دخول المأموم في صلاة الإمام ، قد يوجب فرضا على المأموم ، ولم يكن عليه قبل دخوله ، ولم نره يسقط عنه فرضا قد كان عليه قبل دخوله .

                                                        فمن ذلك أنا رأينا المسافر يدخل في صلاة المقيم ، فيجب عليه أن يصلي صلاة المقيم أربعا ، ولم يكن ذلك واجبا عليه قبل دخوله معه ، وإنما أوجبه عليه دخوله معه .

                                                        ورأينا مقيما لو دخل في صلاة مسافر صلى بصلاته ، حتى إذا فرغ أتى بتمام صلاة المقيم ، فلم يسقط عن المقيم فرض بدخوله مع المسافر ، وكان فرضه على حاله غير ساقط منه شيء .

                                                        فالنظر على ذلك أن يكون كذلك الصحيح الذي كان عليه فرض القيام إذا دخل مع المريض ، الذي قد سقط عنه فرض القيام في صلاته ، أن لا يكون ذلك الدخول مسقطا عنه فرضا كان عليه قبل دخوله في الصلاة .

                                                        فإن قال قائل ، فإنا قد رأينا العبد الذي لا جمعة عليه ، يدخل في الجمعة ، فيجزيه من الظهر ، ويسقط عنه فرض قد كان عليه قبل دخوله مع الإمام فيها .

                                                        قيل له : هذا يؤكد ما قلنا ، وذلك أن العبد لم يجب عليه جمعة قبل دخوله فيها ، فلما دخل فيها مع من هي عليه ، كان دخوله إياها يوجب عليه ما هو واجب على إمامه ، فصار بذلك إذا وجب عليه ما هو واجب على إمامه ، في حكم [ ص: 408 ] مسافر لا جمعة عليه دخل في الجمعة ، فقد صارت واجبة عليه لوجوبها على إمامه ، وصارت مجزئة عنه من الظهر ، لأنها صارت بدلا منها . فكذلك العبد ، لما وجبت عليه الجمعة بدخوله فيها أجزأته من الظهر ، لأنها صارت بدلا منها .

                                                        فقد ثبت بما ذكرنا أن دخول الرجل في صلاة غيره ، قد يوجب عليه ما لم يكن واجبا عليه قبل دخوله فيها ، ولا يسقط عنه ما كان واجبا عليه قبل دخوله .

                                                        فثبت بذلك أن الصحيح الذي ، القيام في الصلاة واجب عليه ، إذا دخل مع من قد سقط عنه فرض القيام في صلاته ، لم يكن يسقط عنه بدخوله من القيام ما كان واجبا عليه قبل ذلك .

                                                        وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف رحمهم الله .

                                                        وكان محمد الحسن رحمه الله يقول : لا يجوز لصحيح أن يأتم بمريض يصلي قاعدا ، وإن كان يركع ويسجد .

                                                        ويذهب إلى أن ما كان من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا في مرضه بالناس وهم قيام مخصوص ، لأنه قد فعل فيها ما لا يجوز لأحد بعده أن يفعله ، من أخذه في القراءة من حيث انتهى أبو بكر ، وخروج أبي بكر رضي الله عنه من الإمامة إلى أن صار مأموما في صلاة واحدة ، وهذا لا يجوز لأحد من بعده ، باتفاق المسلمين جميعا فدل ذلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد كان خص في صلاته تلك بما منع منه غيره .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية