الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثامنة : قوله : { فإن بغت إحداهما على الأخرى } بناء ( ب غ ي ) في لسان العرب الطلب قال الله تعالى : { ذلك ما كنا نبغ } ; ووقع التعبير به هاهنا عمن يبغي ما لا ينبغي على عادة اللغة في تخصيصه ببعض متعلقاته [ ص: 129 ] وهو الذي يخرج على الإمام يبغي خلعه أو يمنع من الدخول في طاعة له ، أو يمنع حقا يوجبه عليه بتأويل ; فإن جحده فهو مرتد .

                                                                                                                                                                                                              وقد قاتل الصديق رضي الله عنه البغاة والمرتدين ; فأما البغاة فهم الذين منعوا الزكاة بتأويل ، ظنا منهم أنها سقطت بموت النبي صلى الله عليه وسلم ; وأما المرتدون فهم الذين أنكروا وجوبها ، وخرجوا عن دين الإسلام بدعوى نبوة غير محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                              والذي قاتل علي طائفة أبوا الدخول في بيعته ، وهم أهل الشام ; وطائفة خلعته ، وهم أهل النهروان .

                                                                                                                                                                                                              وأما أصحاب الجمل فإنما خرجوا يطلبون الإصلاح بين الفرقتين . وكان من حق الجميع أن يصلوا إليه ويجلسوا بين يديه ، ويطالبوه بما رأوا أنه عليه ; فلما تركوا ذلك بأجمعهم صاروا بغاة بجملتهم ، فتناولت هذه الآية جميعهم .

                                                                                                                                                                                                              المسألة التاسعة : قال علماؤنا في رواية سحنون : إنما يقاتل مع الإمام العدل سواء كان الأول أو الخارج عليه ; فإن لم يكونا عدلين فأمسك عنهما إلا أن تراد بنفسك أو مالك أو ظلم المسلمين فادفع ذلك .

                                                                                                                                                                                                              المسألة العاشرة : لا تقاتل إلا مع إمام [ عادل ] يقدمه أهل الحق لأنفسهم ، ولا يكون إلا قرشيا ، وغيره لا حكم له ، إلا أن يدعو إلى الإمام القرشي ; قاله مالك ; لأن الإمامة لا تكون إلا لقرشي .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى ابن القاسم ، عن مالك : إذا خرج على الإمام العدل خارج وجب الدفع عنه ، مثل عمر بن عبد العزيز ، فأما غيره فدعه ينتقم الله من ظالم بمثله ثم ينتقم من كليهما . قال الله تعالى : { فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا } .

                                                                                                                                                                                                              قال مالك : إذا بويع للإمام فقام عليه إخوانه قوتلوا إذا كان الأول عدلا ، فأما هؤلاء فلا بيعة لهم إذا كان بويع لهم على الخوف . [ ص: 130 ] قال مالك : ولا بد من إمام بر أو فاجر .

                                                                                                                                                                                                              وقال ابن إسحاق في حديث يرويه معاوية { : إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا أحدهما ; وقد بلغني أنه كان يقول : لا تكرهوا الفتنة فإنها حصاد المنافقين } . المسألة الحادية عشرة لا يقتل أسيرهم ، ولا يتبع منهزمهم ; لأن المقصود دفعهم لا قتلهم .

                                                                                                                                                                                                              وأما الذي يتلفونه من الأموال فعندنا أنه لا ضمان عليهم في نفس ولا مال .

                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : يضمنون ، وللشافعي قولان : وجه قول أبي حنيفة أنه إتلاف بعدوان ، فليلزم الضمان .

                                                                                                                                                                                                              والمعول في ذلك كله عندنا على ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم في خروجهم لم يتبعوا مدبرا ولا ذففوا على جريح ، ولا قتلوا أسيرا ، ولا ضمنوا نفسا ولا مالا ; وهم القدوة والله أعلم بما كان في خروجهم من الحكمة في بيان أحكام قتال البغاة بخلاف الكفرة . المسألة الثانية عشرة إن ولوا قاضيا ، وأخذوا زكاة ، وأقاموا حقا بعد ذلك كله جاز ; قاله مطرف وابن الماجشون .

                                                                                                                                                                                                              وقال ابن القاسم : لا يجوز بحال .

                                                                                                                                                                                                              وروي عن أصبغ أنه جائز . وروي عنه أيضا أنه لا يجوز كقول ابن القاسم . وقاله أبو حنيفة ; لأنه عمل بغير حق ممن لا يجوز توليته ، فلم يجز كما لو كانوا بغاة .

                                                                                                                                                                                                              العمدة لنا ما قدمناه من أن الصحابة رضي الله عنهم [ في خروجهم ] لم يتبعوا مدبرا ، ولا ذففوا على جريح ، ولا قتلوا أسيرا ، ولا ضمنوا نفسا ولا مالا ، وهم القدوة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              وأن الصحابة لما انجلت الفتنة ، وارتفع الخلاف بالهدنة والصلح لم يعرضوا لأحد منهم في حكم .

                                                                                                                                                                                                              قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه : الذي عندي أن ذلك لا يصلح ; لأن الفتنة لما انجلت كان الإمام هو الباغي ، ولم يكن هناك من يعترضه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : فأهل ما وراء النهر وإن لم يكن لهم إمام ، ولم يعترض لهم حكم ، [ ص: 131 ] قلنا : ولا سمعنا أنهم كان لهم حكم ; وإنما كانوا فتنة مجردة ، حتى انجلت مع الباغي لسكت عنهم لئلا يعضد باعتراضه من خرجوا عليه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية