الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والدهري بنى حجته على أنه لا بد من تأثير وجودي قديم، وأنه حينئذ يلزم قدم الأثر.

فيجاب على كل تقدير، فيقال: التأثير إن كان عدميا بطلت المقدمة الأولى، وجاز حدوث الحوادث بدون تأثير وجودي، وإن كان وجوديا ـ وتسلسل الحوادث ممكن ـ أمكن حدوثه بآثار متسلسلة، وبطل قولك بامتناع تسلسل الآثار، وإن كان تسلسل الآثار ممتنعا لزم: إما التأثير القديم، وإما التأثير الحادث بالقدرة، أو بالقدرة والمشيئة القديمة، وحينئذ فالحوادث مشهودة، فتكون صادرة عن تأثير قديم أو حادث، وإذا جاز صدور الحوادث عن تأثير قديم أو حادث بطلت الحجة.

وأصل هذا الكلام: أنا نشهد حدوث الحوادث، فلا بد لها من محدث، هو المؤثر، وإحداثه هو التأثير، فالقول في إحداث هذه الحوادث والتأثير فيها، كالقول في إحداث العالم والتأثير فيه.

وهؤلاء الدهرية بنوا هذه الحجة على أنه لا بد من تأثير حادث، فيفتقر إلى تأثير حادث، كما بنوا الأولى على أنه لا بد من سبب حادث، فمأخذ الحجتين من مشكاة واحدة، وكلتاهما مبناها على أن التسلسل في الآثار ممتنع. وعامة هؤلاء الفلاسفة يجوزون التسلسل في الآثار: القائلون بقدم العالم، والقائلون بحدوثه، كما يجوزه طوائف من أهل الملل، أو أكثر أهل الملل. [ ص: 363 ]

فإذا أجيبوا على التقديرين، وقيل لهم: إن كان التسلسل جائزا بطلت هذه الحجة وتلك، وإن لم يكن جائزا بطلت أيضا هذه وتلك، كان هذا جوابا قاطعا.

ولكن لفظ التسلسل فيه إجمال واشتباه، كما في لفظ الدور، فإن الدور يراد به: الدور القبلي، وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء، ويراد به الدور المعي الاقتراني، وهو جائز بصريح العقل واتفاق العقلاء، ومن أطلق امتناع الدور فمراده الأول، أو هو غالط في الإطلاق.

ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات، وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل: «آمنت بالله ورسله».

كما في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته» .

وفي رواية: «لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: [ ص: 364 ] آمنت بالله» وفي رواية: «ورسوله»، وفي رواية: «لا يزالون بك يا أبا هريرة حتى يقولوا: هذا الله، فمن خلق الله؟ قال: «فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب، فقالوا: يا أبا هريرة، هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم به، ثم قال: قوموا، قوموا، صدق خليلي» .

وفي الصحيح أيضا عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: إن أمتك لا يزالون يسألون: ما كذا؟ وما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟» .

وهذا التسلسل في المؤثرات والفاعلين يقترن به تسلسل آخر، وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير، وهو نوعان: تسلسل في جنس الفعل، وتسلسل في الفعل المعين.

فالأول - مثل أن يقال: لا يفعل الفاعل شيئا أصلا حتى يفعل شيئا معينا، أو لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا، أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء، فهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء. [ ص: 365 ]

وهذا هو الذي يصح أن يجعل مقدمة في دوام الفاعلية، بأن يقال: كل الأمور المعتبرة في كونه فاعلا: إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن حدث فيها شيء، فالقول في حدوث ذلك الحادث كالقول في حدوث غيره، فالأمور المعتبرة في حدوث ذلك الحادث: إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت محدثة لزم أن لا يحدث شيء من الأشياء حتى يحدث شيء.

وهذا جمع بين النقيضين، وقد يسمى هذا دورا، ويسمى تسلسلا، وهذا هو الذي أجاب عنه من أجاب بالمعارضة بالحوادث المشهودة.

وجوابه أن يقال: أتعني بالأمور المعتبرة الأمور المعتبرة في جنس كونه فاعلا، أم الأمور المعتبرة في فعل شيء معين؟ أما الأول فلا يلزم من دوامها دوام فعل شيء من العالم، وأما الثاني: فيجوز أن يكون كل ما يعتبر في حدوث المعين كالفلك وغيره حادثا، ولا يلزم من حدوث شرط الحادث المعين هذا التسلسل، بل يلزم منه التسلسل المتعاقب في الآثار، وهو أن يكون قبل ذلك الحادث حادث، وقبل ذلك الحادث حادث، وهذا جائز عندهم وعند أئمة المسلمين، وعلى هذا فيجوز أن يكون كل ما في العالم حادثا، مع التزام هذا التسلسل الذي يجوزونه.

وقد يراد بالتسلسل في حدوث الحادث المعين، أو في جنس الحوادث: أن يكون قد حدث مع الحادث تمام مؤثره، وحدث مع حدوث تمام المؤثر.

وهلم جرا.

وهذا أيضا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير. [ ص: 366 ]

فقد تبين أن التسلسل إذا أريد به أن يحدث مع كل حادث حادث يقارنه، يكون تمام تأثيره مع الآخر حادث، وهلم جرا، فهذا ممتنع، وهو من جنس قول معمر في «المعاني المتسلسلة»، وإن أريد به أن يحدث قبل كل حادث حادث وهلم جرا، فهذا فيه قولان، وأئمة المسلمين وأئمة الفلاسفة يجوزونه.

وكما أن التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير، يراد به التسلسل المتعاقب شيئا بعد شيء، ويراد به التسلسل المقارن شيئا مع شيء، فقولنا أيضا: «إن المؤثر يستلزم أثره» يراد به شيئان: قد يراد به أن يكون معه في الزمان، كما تقوله الدهرية في قدم الأفلاك، وقد يراد به أن يكون عقبه، فهذا هو الاستلزام المعروف عند جمهور العقلاء، وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء قديم.

التالي السابق


الخدمات العلمية