الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ اختيار الشيوخ والرحلة للحديث ] :

( وابدأ بـ ) أخذ ( عوالي ) شيوخ ( مصركا ) ، ولا تنفك عن ملازمتهم والعكوف عليهم حتى تستوفيها ، ( و ) ابدأ منها بـ ( ما يهم ) بضم أوله ، من ذلك وغيره ; كالمروي الذي انفرد به بعضهم ، فمن شغل نفسه - كما قال أبو عبيدة - بغير المهم أضر بالمهم .

وإن استوى جماعة في السند وأردت الاقتصار على أحدهم فالأولى أن تتخير المشهور منهم بالطلب ، والمشار إليه من بينهم بالإتقان فيه والمعرفة له ، فإن تساووا في ذلك أيضا فتخير الأشراف وذوي الأنساب منهم ; لحديث : ( قدموا قريشا ولا [ ص: 276 ] تقدموها ) ، فإن تساووا في ذلك فالأسن ; لحديث : ( كبر كبر ) .

( ثم ) بعد استيفائك أخذ ما ببلدك من المروي ، وتمهرك في المعرفة به ، واستيعابك باقي الشيوخ ممن قنعت عما عندهم من المروي بغيرهم بالأخذ عنهم لما قل ، بحيث لا يفوتك من كل من مرويها وشيوخها أحد ، وأخذ الفن عن الحافظ العارف به منهم ، ( شد الرحلا ) ، أو اركب البحر حيث غلبت السلامة فيه ، أو امش حيث استطعت بلا مزيد مشقة ، ( لغيره ) ; أي : لغير مصرك من البلدان والقرى ; لتجمع بين الفائدتين من علو الإسنادين ، وعلم الطائفتين .

وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( أعلم الناس من يجمع علم الناس إلى علمه ، وكل صاحب علم غرثان ) .

وعن بعضهم قال : من قنع بما عنده لم يعرف سعة العلم . وعن ابن معين قال : أربعة لا تؤنس منهم رشدا ، وذكر منهم : رجل يكتب في بلده ولا يرحل . وسأل عبد الله بن أحمد أباه : هل ترى لطالب العلم أن يلزم رجلا عنده علم فيكتب عنه ، أو يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع فيها ؟ قال : يرحل فيكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة ، يشام الناس يسمع منهم .

وقيل لأحمد أيضا : أيرحل الرجل في طلب العلم ؟ فقال : بلى والله شديدا ، لقد كان علقمة [ ص: 277 ] والأسود يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه فيسمعانه منه . وهذا على وجه الاستحباب ، وهو متأكد إذا علمت أن ثم من المروي ما ليس ببلدك مطلقا أو مقيدا بالعلو ونحوه .

بل قد يجب إذا كان في واجب الأحكام وشرائع الإسلام ، ولم يتم التوصل إليه إلا به ، فالوسائل تابعة للمقاصد كما صرح به القاضي عياض في ذلك ، وفي الاشتغال بعلوم هذا الشأن . ويروى أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( اطلبوا العلم ولو بالصين ; فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم ) . وعن أبي مطيع معاوية بن يحيى قال : أوحى الله عز وجل إلى داود عليه السلام أن اتخذ نعلين من حديد ، وعصى من حديد ، واطلب العلم حتى تنكسر العصى وتنخرق النعلان .

وقال الفضل بن غانم في بعض الأحاديث : والله لو رحلتم في طلبه إلى البحرين لكان قليلا . وقصة موسى عليه السلام في لقاء الخضر ، بل قوله تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [ ص: 278 ] من شواهده .

وكفى بقوله صلى الله عليه وسلم : ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ) ترغيبا في ذلك . وعن ابن عباس في قوله : السائحون ، قال : هم طلبة العلم . وقال إبراهيم بن أدهم : إن الله يدفع عن هذه الأمة البلاء برحلة أصحاب الحديث .

وقال زكريا بن عدي : رأيت ابن المبارك في النوم ، فقلت له : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي برحلتي في الحديث . إلى غير هذا بما أودعه الخطيب في جزء له في ذلك قد قرأته .

ورحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنهما مسيرة شهر في حديث واحد ، وكذا رحل غيره في حديث واحد . وقال أبو قلابة : لقد أقمت بالمدينة ثلاثة أيام ، ما لي حاجة إلا رجل عنده حديث يقدم فأسمعه منه .

وقال [ ص: 279 ] الشعبي في مسألة : كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة . وقال ابن مسعود : لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني لرحلت إليه . وقال أبو العالية : كنا نسمع عن الصحابة فلا نرضى حتى خرجنا إليهم فسمعنا منهم .

ولم يزل السلف والخلف من الأئمة يعتنون بالرحلة . والقول الذي حكاه الرامهرمزي في ( الفاصل ) عن بعض الجهلة في عدم جوازها شاذ مهجور .

وقد اقتفيت ولله الحمد أثرهم في ذلك بعد موت من كانت الرحلة إليه من سائر الأقطار كالواجبة ، وهو شيخنا رحمه الله ، وأدركت في الرحلة بقايا من المعتبرين ، وما بقي في ذلك من سنين إلا مجرد الاسم بيقين .

وحيث وجد ورحلت فبادر فيها للقاء من يخشى فوته ، ولا تتوان فتندم كما اتفق لغير واحد من الحفاظ في موت بعض من قصدوه بالرحلة بعد الوصول إلى بلده ، واقتد بالحافظ السلفي الأصفهاني ; فإنه ساعة وصوله إلى بغداد لم يكن له شغل إلا المضي لأبي الخطاب ابن البطر ، هذا مع علته بدماميل كانت في مقعدته من الركوب ، بحيث صار يقرأ عليه وهو متكئ ; للخوف من فقده ; لكونه كان المرحول إليه من الآفاق في الإسناد .

ولما رحل شيخنا إلى البلاد الشامية قصد الابتداء ببيت المقدس ; ليأخذ عن ابن الحافظ العلائي سنن ابن ماجه ; لكونه سمعه على الحجار ، فبلغه - وهو بالرملة - موته ، فعرج عنه إلى دمشق ; لكونها [ ص: 280 ] بعد فواته أهم .

وقد أورد الإمام أحمد في مسنده عن عبد بن حميد حديثا ، ثم قال : قال عبد : قال محمد بن الفضل : سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث أول ما جلس إلي ، فقال : ثنا به حماد بن سلمة ، فقال : لو كان من كتابك ، فقمت لأخرج كتابي ، فقبض على ثوبي ثم قال : أمله علي ; فإني أخاف أن لا ألقاك ، قال : فأمليته عليه ، ثم أخرجت كتابي فقرأته عليه .

واحذر من المبالغة في المبادرة بحيث ترتكب ما لا يجوز ، فربما يكون ذلك سببا للحرمان ، فقد حكي أن بعضهم وافى البصرة ليسمع من شعبة ويكثر عنه ، فصادف المجلس قد انقضى ، وانصرف شعبة إلى منزله ، فبادر إلى المجيء إليه فوجد الباب مفتوحا ، فحمله الشره على أن دخل بغير استئذان ، فرآه جالسا على البالوعة يبول ، فقال له : السلام عليكم ، رجل غريب قدمت من بلد بعيد تحدثني بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاستعظم شعبة هذا ، وقال : يا هذا دخلت منزلي بغير إذني ، وتكلمني وأنا على مثل هذا الحال ، تأخر عني حتى أصلح من شأني ، فلم يفعل واستمر في الإلحاح ، وشعبة ممسك ذكره بيده ليستبرئ ، فلما أكثر قال له : اكتب : ثنا منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حراش ، عن أبي مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) ، ثم قال : [ ص: 281 ] والله لا أحدثك بغيره ، ولا حدثت قوما تكون فيهم ، انتهى .

واسلك ما سلكته في بلدك من الابتداء بالأهم فالأهم ، ولا تكن كمن رحل من الشام إلى مصر فقرأ بها على مسند الوقت العز بن الفرات الذي انفرد بما لا يشاركه فيه في سائر الآفاق غيره ( الأدب المفرد ) للبخاري بإجازته من العز بن جماعة لسماعه من أبيه البدر ، مع كون في مسندي القاهرة من سمعه على من سمعه على البدر ، بل وكذا في بلده التي رحل منها .

ولا يتشاغل في الغربة إلا بما تحق الرحلة لأجله ، فشهوة السماع - كما قال الخطيب - لا تنتهي ، والنهمة من الطلب لا تنقضي ، والعلم كالبحار المتعذر كيلها ، والمعادن التي لا ينقطع نيلها .

كل ذلك مع مصاحبتك التحري في الضبط ، فلا تقلد إلا الثقات ، ( ولا تساهل حملا ) ; أي : ولا تتساهل في الحمل والسماع بحيث تخل بما عليك في ذلك ، فالمتساهل مردود كما تقدم في الفصل الثاني عشر من معرفة من تقبل روايته ومن ترد .

التالي السابق


الخدمات العلمية