الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                77 ص: وقد ذهب قوم في الكلب يلغ في الإناء أن الماء طاهر ويغسل الإناء سبعا وقالوا: إنما ذلك تعبد تعبدنا به في الآنية خاصة.

                                                فكان من الحجة عليهم: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الحياض التي تردها السباع قال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا" . فقد دل ذلك أنه إذا كان دون القلتين حمل الخبث، ، ولولا ذلك لما كان لذكر القلتين معنى، ولكان ما هو أقل منهما وما هو أكثر سواء، فلما جرى الذكر على القلتين ثبت أن حكمهما خلاف حكم ما هو دونهما، فثبت بهذا من قول رسول الله - عليه السلام - أن ولوغ الكلب في الماء ينجس الماء، وجميع ما بينا في هذا الباب هو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد رحمهم الله.

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بالقوم: الأوزاعي ومالكا وأصحابه وبعض الظاهرية فإنهم قالوا: إن الإناء إذا ولغ فيه الكلب لا ينجس الماء ولا الإناء، إنما يغسل سبعا تعبدا.

                                                [ ص: 191 ] وقال عياض في "شرح مسلم ": مذهبنا في غسل الإناء من ولوغ الكلب تعبد مستحق العدد وهو مذهب أهل الظاهر ، لكن يتنزه عنه عندنا مع وجود غيره وهو قول الأوزاعي ، وقال الثوري : من لم يجد غيره توضأ به ثم تيمم.

                                                ووافقنا الشافعي في العدد وخالف في نجاسة الكلب فقال: هو نجس. وقد حكي هذا عن سحنون .

                                                فإن قيل: ما حكم الخنزير إذا ولغ في الإناء ؟

                                                قلت: يقاس على الكلب لنجاسته، وهو أحد قولي الشافعي ، وعند مالك لا يغسل; لأنه لا يقتنى فلا يوجد فيه علة الكلب من أذى الناس، وهو قول للشافعي ، وعنه يغسل لتقذره وأكله الأنجاس.

                                                وقال الإمام: احتج أصحابنا بتحديد غسل الإناء سبع مرات أنه لو كانت العلة النجاسة لكان المطلوب الإنقاء وقد يحصل في مرة واحدة.

                                                واختلف عندنا هل يغسل الإناء من ولوغ الكلب المأذون في اتخاذه؟ فيصح أن يبنى الخلاف على الخلاف في الألف واللام في قوله: "إذا ولغ الكلب" هل هي للعهد أو للجنس؟ فإن كانت للعهد اختص ذلك بالمنهي عن اتخاذه، وهل يغسل الإناء من ولوغه في الطعام؟ أيضا خلاف، ويصح أن يبنى على خلاف أهل الأصول في تخصيص العموم بالعادة؛ إذ الغالب عندهم وجود الماء لا الطعام. انتهى.

                                                والجواب عن ذلك: إنا لا نسلم أن يدل تحديد الغسل بالسبع على الطهارة، بل يدل على قوة النجاسة، ولهذا أمر بالتراب في السابعة مبالغة في قصد التنظيف، ولا نسلم أيضا أن يحصل الإنقاء في مرة واحدة; لأن ذلك يعرف عقلا، ويلزمهم في قولهم بالتعبد أن يقولوا بغسل جميع الإناء ما لاقى الولوغ وما لم يلقه؛ عملا بحقيقة لفظ الإناء، وأما الألف واللام في "الكلب" فلتعريف الحقيقة وتفيد الاستغراق، بيان ذلك أن المعرف باللام قد يكون نفس الحقيقة من غير نظر إلى الأفراد، مثل: الرجل خير من المرأة، وقد يكون حصة معينة منها واحدا أو أكثر مثل: جاءني رجل، [ ص: 192 ] فقال الرجل كذا، وقد يكون حصة غير معينة منها لكن باعتبار عهدتها في الذهن نحو: ادخل السوق. وقد يكون جميع أفرادها نحو: إن الإنسان لفي خسر فإذا لم توجد قرينة البعضية كيف يحمل على العهد، بل يحمل على الاستغراق; حتى لا تترجح بعض المتساويات، ولا يفهم من الإطلاق إلا الاستغراق، والعهد الذهني موقوف على وجود قرينة البعضية كما قلنا، وأما تخصيص العام بالعادة إنما يكون في موضع يستبعد حمل الكلام على عمومه، نحو ما إذا قال: لا نأكل رأسا، فإنه يستبعد أن يتناول كلامه رأس العصفور ونحوه، بخلاف الإناء فإنه لا يستبعد -لا عقلا ولا عادة- أن يتناول الماء والطعام، على أن البعض لم يجوز هذا التخصيص.

                                                قوله: "فإنه" أي التعبد "في الآنية خاصة" احترز به عن الأمر بالغسل في غيرها فإنه للنجاسة.

                                                قوله: "فكان من الحجة عليهم" أي على القوم الذين قالوا بالتعبد.

                                                قوله: "فثبت بهذا" أي بما ذكرنا من قول رسول الله - عليه السلام - أن ولوغ الكلب في الماء ينجس الماء، فحينئذ تجب إراقته، وعلى قول الشافعي إذا كان الماء في الإناء مقدار القلتين لم تجب إراقته لأنه طاهر، وأما إذا كان غير الماء فإنه يراق وإن كان قلتين أو أكثر، وعن الأوزاعي إذا ولغ الكلب في إناء فيه عشرة أقساط لبن يهرق كله ويغسل الإناء سبع مرات إحداهن بالتراب، وعن المالكية قولان في غير الماء:

                                                أحدهما: أنه طاهر لا يهرق ولكن يغسل الإناء سبعا تعبدا.

                                                والآخر: أنه يهرق ويغسل الإناء سبعا، وقد شنع ابن حزم ها هنا على أبي حنيفة وأساء الأدب وقال: قال أبو حنيفة : لا يغسل الإناء من ولوغ الكلب إلا مرة واحدة، وأن كل ما في الإناء يهرق -أي شيء كان- وهذا قول لا يحفظ عن أحد من الصحابة ولا من التابعين; إلا ما روي عن إبراهيم أنه قال فيما ولغ الكلب:

                                                [ ص: 193 ] اغسله، وعنه: اغسله حتى تنقيه. ولم يذكر تحديدا وهو قول مخالف لسنة رسول الله - عليه السلام - واحتج له بعض مقلديه بأن أبا هريرة قد روي عنه أنه خالفه، وهو باطل; لأنه إنما روى ذلك الخبر الساقط عبد السلام بن حرب وهو ضعيف وعلى نحس روايته شرط الثلاث، فلم يحصلوا إلا على خلاف السنة وخلاف ما اعترضوا به عن أبي هريرة ، فلا النبي - عليه السلام - اتبعوا، ولا أبا هريرة الذي احتجوا به قلدوا.

                                                قلت: هذا كلام في غاية السخافة والتفاهة; لأن أبا حنيفة لم يقل فيه بالمرة، ولا أحد من أصحابه، بل مذهبه أن يغسل ثلاث مرات كما أفتى به أبو هريرة ، وحفظ هذا عن أبي هريرة ، وكيف يقول: وهذا قول لا يحفظ عن الصحابة ولما ثبت نجاسة الإناء بالولوغ، ثبت نجاسة ما يجاوره، سواء كان ماء أو غيره، وهو أيضا محفوظ عن بعض الصحابة والتابعين.

                                                وقد روى عبد الرزاق : عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه كان يكره سؤر الكلب" .

                                                وروى: عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء : ولغ الكلب في جفنة قوم فيها لبن فأدركوه عند ذلك، فغرفوا حول ما ولغ، قال لا تشربوه".

                                                وحكمه على حديث عبد السلام بالسقوط ساقط باطل; لأن الخبر صحيح صححه جماعة من المحدثين كما ذكرناه، وعبد السلام بن حرب ثقة مأمون حافظ، أخرج له الجماعة.

                                                وغمز أيضا ابن قدامة في "المغني" علينا حيث قال: قال أبو حنيفة : لا يجب العدد في شيء من النجاسات إنما يغسل حتى يغلب على الظن نقاؤه من النجاسة; لأنه روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال في الكلب يلغ في الإناء: "يغسل ثلاثا أو خمسا أو [ ص: 194 ] سبعا" فلم يعين عددا وحديثهم يرويه عبد الوهاب بن الضحاك وهو ضعيف، وقد روى غيره من الثقات: "فليغسله سبعا".

                                                قلت: كان أبو هريرة يغسل ثلاثا والراوي إذا روى شيئا ثم فعل بخلافه فالعبرة عندنا لما رأى لا لما روى وقد بسطنا الكلام فيه، وأيضا روي من طريق أبي هريرة مرفوعا التخيير المذكور، فلو كان السبع واجبا لم يخير بينه وبين الباقي، وأيضا هذا الأمر كان حين أمر بقتل الكلاب فلما نهي عن قتلها نسخ ذلك، وأيضا الأمر بالسبع محمول على من غلب على ظنه أن نجاسة الولوغ لا تزول بأقل منها، وكون عبد الوهاب ضعيفا لا يضرنا.

                                                لأن الدارقطني : أخرج عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن أبي هريرة قال: "إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه، ثم اغسله ثلاث مرات" .

                                                وهذا إسناد صحيح، وقد مر الكلام فيه مستقصى.




                                                الخدمات العلمية