الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3297 [ 1272 ] وعن عوف بن مالك قال: قتل رجل من حمير رجلا من العدو ، فأراد سلبه ، فمنعه خالد بن الوليد ، وكان واليا عليهم ، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عوف بن مالك فأخبره ، فقال لخالد: " ما منعك أن تعطيه سلبه؟. قال: استكثرته يا رسول الله! قال: ادفعه إليه. فمر خالد بعوف فجر بردائه ، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فاستغضب ، فقال: لا تعطه يا خالد ، لا تعطه يا خالد ، هل أنتم تاركو لي أمرائي؟ إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعي إبلا أو غنما فرعاها ، ثم تحين سقيها ، فأوردها حوضا ، فشرعت فيه فشربت صفوه وتركت كدره ، فصفوه لكم وكدره عليهم .

                                                                                              وفي رواية : قال عوف: فقلت: يا خالد! أما علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى ، ولكني استكثرته .

                                                                                              رواه أحمد ( 6 \ 27 ) ومسلم (1753) (43 و 44)، وأبو داود (2719 و 2720).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقول عوف بن خالد : ( هل أنجزت لك ما ذكرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ) كلام فيه نوع من التقصير ، والتهكم بمنصب الإمارة ، والإزراء عليه ، ولذلك غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك حين سمعه ، ثم أمضى ما فعله خالد بقوله : ( لا تعطه يا خالد !) ، ونوه به ، وعظم حرمته بقوله : ( هل أنتم تاركو لي أمرائي ؟!) وهذا يدل دلالة واضحة على : أن السلب لا يستحقه القاتل بنفس القتل ، بل برأي الإمام ونظره ، كما قدمناه .

                                                                                              وقوله : ( ادفعه إليه ) ; هو أمر على جهة الإصلاح ورفع التنازع ، فلما صدر من عوف ما يقتضي الغض من منصب الإمارة أمضى ما رآه الأمير ; لأنه لم يكن للقاتل فيه حق . وهذا نحو مما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء الزبير ، حيث نازعه الأنصاري في السقي ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (اسق يا زبير ! وأرسل الماء إلى جارك) ، فأغضب الأنصاري النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال للزبير : (اسق يا زبير ! وأمسك الماء حتى يبلغ الجدر) ، فاستوفى للزبير حقه .

                                                                                              وهذا الحديث من أصعب الأحاديث على القائل بأن السلب يستحقه القاتل بنفس القتل .

                                                                                              و ( استغضب ) مبني لما لم يسم فاعله ; أي : أغضب ، زيدت فيه السين والتاء ، ومعناه : خلق فيه الغضب عندما سمع ما كرهه شيئا فشيئا ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              [ ص: 552 ] وقوله : ( هل أنتم تاركو لي أمرائي ) ; هكذا الرواية بإسقاط النون من (تاركو) ، ولحذفها وجهان :

                                                                                              أحدهما : أن يكون استطال الكلمة كما استطيلت كلمة الاسم الموصول ، كما قال تعالى : وخضتم كالذي خاضوا [التوبة: 69] على أحد القولين . وكما قال الشاعر :


                                                                                              ابني كليب إن عمي اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا

                                                                                              والوجه الثاني : أن يكون (أمرائي) مضافا ، وأقحم الجار والمجرور بين المضاف والمضاف إليه ، ويكون هذا من نوع قراءة ابن عامر : (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم) [الأنعام : 137] ، بنصب (أولادهم) ، وخفض (شركائهم) ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وأكثر ما يكون هذا النوع في الشعر ، كما أنشده سيبويه :


                                                                                              كما خط الكتاب بكف يوما     يهودي يقارب أو يزيل

                                                                                              وكما أنشد :


                                                                                              فزججتها بمزجة     زج القلوص أبي مزاده

                                                                                              ويفهم من هذا الحديث : احترام الأمراء ، وترك الاستطالة عليهم .

                                                                                              وقوله : (استرعي رعية) ; أي : كلف رعيها ورعايتها ، وهذا مثال مطابق [ ص: 553 ] للمتمثل به من كل وجه .

                                                                                              و ( الصفو ) : الصافي عن الكدر ، وهو عبارة عما يأخذه الناس بالقسم .

                                                                                              و ( الكدر ) : المتغير ، وهو مثال لما يبقى للأمراء ; لما يتعلق به من التبعات والحقوق . والله تعالى أعلم.




                                                                                              الخدمات العلمية